استهلّ المحامون في شركة الاستشارات القانونية في وول ستريت كليري غوتليب ستين وهاميلتون اجتماعهم الشهري في 9 أبريل على مؤشر محبط. فقد كان المستثمرون تحت وقع الصدمة بعد إعلان الرئيس دونالد ترمب عزمه فرض رسوم جمركية قاسية في الأسبوع الذي سبق، وما أعقب ذلك من تراجع لمؤشر ستاندرد آند بورز 500 إلى ما دون 5000 نقطة للمرة الأولى منذ نحو عام، وتكبيده المحافظ الاستثمارية حول العالم خسائر فادحة.
لكن بحلول الساعة الواحدة ظهراً، تراجع الرئيس عن قراره، معلناً تعليق جميع الرسوم لمدة 90 يوماً، ما قلب الأسواق رأساً على عقب. روى المحامي الشريك آدم فليشر خلال فعالية نُظّمت في نيويورك لمناقشة آفاق الصفقات، أنه ما إن تلقّى الخبر على هاتفه، حتى صاح بزملائه، قائلاً: عودوا إلى مكاتبكم فوراً، المؤشر عند 5400 نقطة، هيا بنا!
مسارعة لانتهاز الفرص
ارتفع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنحو 10% ذلك اليوم. وفي صباح اليوم التالي، أجرت مجموعة غولدمان ساكس مكالمةً شملت نخبة من كبار خبراء الصفقات في المصرف. كانت الرسالة التي وجّهتها كريستينا مينيس، المسؤولة عن مساعدة الشركات في تمويل صفقات الاستحواذ، واضحة: السيولة متوفرة، حان وقت الخروج للبحث عن صفقات جديدة.
تُعدّ صفقات الدمج والاستحواذ الركيزة الأساسية لمنظومة المال والأعمال، أذ يعول عليها المشترون لتحقيق النمو، بينما يراها الباعة حلاً يضمن انتقالاً سلساً للموظفين وصوناً لمصالح المستثمرين. أما الوسطاء في المصارف، فيجنون منها إيرادات ثابتة عبر رسوم استشارية.
إلا أن سوق الصفقات هذه تحتاج إلى الاستقرار، إذ يهدد ازدياد الضبابية بتقويضها كلياً. وفي ظلّ تراجع أنشطة الدمج والاستحواذ عن المتوقع هذا العام، لن يرغب أحد في تفويت أي فرصة قد تلوح في الأفق.
يتهافت البعض إلى إتمام الصفقات شبه الجاهزة، تحسّباً لما قد يحمله يوليو من غموض إضافي، إلى جانب الركود الموسمي المعتاد خلال الصيف، ما قد يُبطئ أنشطة الدمج والاستحواذ. في المقابل، يبحث آخرون عن فرص استحواذ بين الأسهم التي أرهقتها تقلبات السوق. أما في حال خابت التوقعات ولم تُبرم أي صفقات، فيقول أحد المخضرمين في وول ستريت مازحاً: سأكتفي بلعب كثير من الغولف.
قالت كيمبرلي بيتيّو-ديكوسار، الرئيسة الشريكة لقسم الدمج والاستحواذ العالمي لدى شركة المحاماة وايت آند كايس: حين تستمع إلى النقاشات في مجالس الإدارة، تلمس قدراً من الإرهاق على الصعيدين المهني والشخصي، حيال سبل مواكبة هذا الإيقاع المتسارع.
سوق لصالح المشترين
بغض النظر عن النهج المتبع، فإن الآمال بأن يكون عام 2025 زاخراً بالصفقات تبددت سريعاً. إذ منذ إعلان ترمب عن الرسوم الجمركية فيما سمّاه يوم التحرير، لم تتجاوز قيمة الصفقات المُعلَن عنها عالمياً 110 مليارات دولار، أي بانخفاض 28% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. قالت أودرا كوهين، الشريكة في شركة المحاماة سوليفان آند كرومويل: يأخذ الناس استراحة لالتقاط الأنفاس، لكننا دائماً نطمح إلى صفقات متواصلة، لذا فإن ما يحدث يبعث على شيء من الخيبة.
عرقلت الحرب التجارية التي تشتد حيناً وتخبو أحياناً أخرى استعدادات، في تجميد استعدادات طروحات عامة لدى شركات تتجاوز قيمتها الإجمالية 120 مليار دولار. في ظل هذا المناخ، بدأت الشركات تعيد النظر في أي صفقة ليست مضمونة النتائج. فقد علّقت شركة سان-غوبان (Cie. de Saint-Gobain) الفرنسية، المتخصصة في مواد البناء، بيع وحدة صنع زجاج السيارات التابعة لها، فيما أجّلت شركة الملكية الخاصة ثري آي غروب (3i Group) بيع شركة أغذية الحيوانات الأليفة إم بي إم (MPM) ، وانسحبت روزبانك إندستريز (Rosebank Industries) من صفقة بقيمة ملياري دولار للاستحواذ على إلكتريكال كومبوننتس إنترناشونال (Electrical Components International).
قال جيك هنري، الشريك في قيادة قسم صفقات الدمج والاستحواذ العالمية لدى شركة الاستشارات ماكينزي أند كو: في بداية هذا العام، كان معظم الرؤساء التنفيذيين الذين تحدثنا إليهم يخططون لإبرام صفقات. أما الآن، جمّد أغلبهم تلك الخطط، بعدما أصبحت حالة الضبابية التي كنّا نتوقعها واقعاً ملموساً.
الشركات التي قررت المضي قُدماً بعقد الصفقات رغم الأجواء الضبابية، وجدت نفسها في سوق تميل بوضوح لصالح المشترين. في مارس، كانت برادا تتفاوض على الاستحواذ على فيرساتشي مقابل نحو 1.4 مليار يورو (1.6 مليار دولار). لكن بحلول موعد الإعلان عن الصفقة، صباح اليوم الذي تلى تعليق ترمب عدداً ممّا يُعرف بالرسوم الجمركية المتبادلة، خفضت تقييمها لدار الأزياء بحوالي 10% عن السعر السابق.
في الأيام التي سبقت تغيير ترمب لموقفه، كانت شركة السلع الاستهلاكية العملاقة ريكيت بينكيزر (Reckitt Benckiser) تتوقع تلقّي العروض النهائية لبيع محفظة من علامات العناية المنزلية تقدر قيمتها بنحو 8 مليارات دولار. لكن في ظل التقلبات الحادة التي شهدتها الأسواق، تردد المشترون المحتملون في تقديم عروض ملزمة، وطرحوا تقييماً أدنى بكثير من التقديرات الأولية. قالت مهافيش قريشي، الشريكة في قسم الشركات والتمويل لدى شركة المحاماة هوغان لوفلز: ستُبرم الصفقات في نهاية المطاف، لكنها ستتطلّب ترتيبات أعقد.
ظروف غير مواتية للصفقات
قال أحد المستشارين القانونيين إنه ينصح عملاءه حالياً بتجنّب إبرام أي صفقات قد يتراجعون عنها عند انتهاء فترة تأجيل الرسوم، محذّراً من أن المحاكم قد لا تتعاطف مع مثل هذا النهج. في ظلّ هذا الواقع، يدرس المشترون سيناريوهات متعددة لحساب كيفية تأثير تغيّر الرسوم الجمركية على تقييم الصفقات، وغالباً ما تتغير هذه الحسابات لحظة بلحظة، على وقع الأخبار التي تصدر تباعاً عن البيت الأبيض.
يشكل ما يحدث تحولاً في طريقة إبرام الصفقات التي غالباً ما كانت تتبع دورة معروفة مسبقاً إلى حدّ ما، إذ يتحدَّد مسار السوق عادةً حسب عدد وحجم الصفقات المُعلنة في الربع الأول، ويستمر الزخم حتى منتصف العام. ثم تبدأ نافذة الفرص تضيق، مع تراجع النشاط في الولايات المتحدة بين عيد الاستقلال وعيد العمّال الأميركيين.
يكتسب هذا الجدول الزمني أهمية بالغة في عمليات الطرح الأولي العام، إذ يتعين على الشركات التزام جدول زمني من الإفصاحات العلنية والأنشطة التسويقية وصولاً إلى يوم الإدراج في البورصة. حتى إذا سارت الأمور بسلاسة، قد تسبب تقلبات أسواق الأسهم في إفشال صفقة في اللحظة الأخيرة. لذا لا تبدو الظروف الراهنة مواتية لأي تحرّك.
مثلا، كانت شركات مثل إيتورو غروب (EToro Group) وستبهب (StubHub Holdings) وكلارنا بنك (Klarna Bank) من بين عشرات الشركات التي تستعد لبدء الترويج لأسهمها للمستثمرين، عندما عمّت الفوضى الأسواق.
قال إيفان رايلي، رئيس قسم أسواق رأس المال للأسهم في الأميركيتين لدى بي إن بي باريبا (BNP Paribas): قرارات الطرح تُتخذ كلّ أسبوع وحده. ولا بد من حصول تغيّرات كثيرة قبل عودة نشاط الطروحات العامة.
استمرار حالة الضبابية
رغم حالة الضبابية، ما تزال بعض الصفقات تبدو معقولة. ويقول مستشارون إن صفقات فصل الشركات، وتلك التي تعتمد بالكامل على تبادل الأسهم بين شركات تتحرّك قيمها السوقية في الاتجاه نفسه، إلى جانب الصفقات المحلية داخل الولايات المتحدة، ما تزال تحظى بفرص جيدة للنجاح.
في 17 أبريل، استحوذت شركة غلوبال بيمنتس (Global Payments)، المتخصصة في معالجة مدفوعات البطاقات الائتمانية، على منافستها وورلدباي (Worldpay) في صفقة تتجاوز قيمتها 24 مليار دولار، وهي واحدة من أكبر صفقات العام. في الوقت نفسه، وافقت الشركة على بيع إحدى وحداتها مقابل 13.5 مليار دولار، بما يشمل الديون.
حين تلوح فرصة مناسبة أمام المستثمرين، من الطبيعي أن يتحركوا سريعاً لتأمين التمويل قبل أن تصبح الجهات المقرضة أكثر تردداً في تمويل صفقات الشركات.
في عطلة نهاية الأسبوع التي تلت إعلان ترمب عن حزمة الرسوم الجمركية الشاملة، تقدّمت شركة الاستثمار بايباين (BayPine) بعرض للاستحواذ على شركة سينيكسل كلينيكال ريسرتش (CenExel Clinical Research)، غير آبهة بموجة التخارج المحمومة التي اجتاحت الأسواق على مدى يومين. وقد سبقت الشركة باقي المشترين المحتملين، وسارعت إلى ترتيب التمويل عبر مؤسسات تمويل خاصة، وأٌعلنت أطراف الصفقة عنها يوم الإثنين، وفقاً لمصادر مطّلعة على العملية.
حالة التخبط في نشاط الصفقات وضعت بعضاً من أكبر بنوك وول ستريت، التي تُعدّ مكاتب الدمج والاستحواذ فيها مصدراً رئيسياً للإيرادات، في موقف حرج. ومع انطلاق موسم إعلان الأرباح الأسبوع الماضي، سُئل رئيس مورغان ستانلي التنفيذي تيد بيك، عن تصريحاته السابقة بشأن تباطؤ حركة الصفقات. سأله أحد المحللين: كم من الوقت يجب أن تستمر حالة الضبابية قبل أن يزداد ترسخ تعطل السوق؟ ردّ بيك قائلاً: إن هذا هو السؤال.