مما لا شك فيه أن العملات المشفرة فرضت نفسها على أسواق المال كأداة وجدت لتبقى، وبينما كبّلت جائحة كورونا الاقتصاد العالمي وعطّلت قطاعاته التقليدية الحيوية، أطلقت من ناحية أخرى عصراً مالياً جديداً قائماً على العملات الافتراضية الرقمية (Cryptocurrency) التي تم تشفيرها لإضافة خاصية الأمان والسرية، وهي تتيح إمكان التخزين إلكترونياً من دون وجود سلطة أو بنك مركزي يتحكم فيها، كما لا يوجد لها كيان فيزيائي ملموس مثل العملات الاعتيادية الأخرى كاليورو والدولار.
والجديد الذي كان بالأمس غامضاً وخطراً أصبح اليوم جاذباً مع تهافت غير مفهوم للمتداولين على شراء العملة، أوقده أخيراً دخول شركات عالمية كبرى مثل تسلا وماستركارد في مدار الاستعمال الفعلي للعملة الرقمية، وفقاً لموقع إندبندنت عربية.
أكثر من 1324 عملة رقمية مشفرة موجودة اليوم في الأسواق، ومنتشرة في التعاملات الإلكترونية على شبكة الإنترنت، أشهرها بيتكوين التي استطاعت أن تسجل أرباحاً وارتفاعات فاقت الـ 1000 في المئة منذ مارس (آذار) 2020، أي منذ بداية كوفيد-19، فالمستثمرون في بيتكوين أو غيرها وجدوا قوة جذب واسعة في وفرصة لتنويع الاستثمار، كما وسيلة تحوط ضد التضخم ومخزناً للقيمة في عالم غارق في الحوافز وطباعة الأموال من البنوك المركزية، التي زادت حدتها لمواجهة تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي.
وتوقع بنك أوف أميركا استمرار الزخم على تداولات بيتكوين خلال الفترة المقبلة، بعد حمى الشراء التي انتابت المستثمرين العام الماضي، وتسببت في مكاسب قياسية للعملات المشفرة فاقت الـ 400 في المئة.
واعتبرت وكالة بلومبيرغ أنه للمرة الأولى منذ العام 2017 يُجمع عملاء بنك أوف أميركا والبالغة أصولهم نحو 561 مليار دولار على أن بيتكوين هي الأصل الاستثماري الأكثر تداولاً، وسط حال غير مسبوقة من المضاربات تجتاح وول ستريت على العملة المشفرة.
استثمار ومضاربة وتصحيح
يشرح الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية والأبحاث الاقتصادية طارق الرفاعي، من لندن، أن العملات المشفرة بدأت في العام 2009 مع طرح عملة بيتكوين، بهدف خلق عملة بديلة مستقبلية مستقلة لا تتحكم بها المصارف المركزية ولا تستطيع تعقبها، وبهدف الحفاظ على الثبات التجاري بين البائع والمشتري.
وللعملات المشفرة استخدامات كثيرة، وقد بدأت بعض المصارف بضمها إلى محافظها لمزاياها الآمنة وتحديداً الريبل والإثيريوم.
وأوضح أن استثمارات الشركات الكبرى في بيتكوين، وأحدثها تسلا، تعني سقوط حاجز الخوف من العملة، واستبعاد فكرة أنها للتهرب من الضرائب، ما يضعها في صلب النظام المالي.
وقال إن معدل الصعود خلال السنوات الـ 10 الماضية في عملة بيتكوين بلغ نحو 200 في المئة سنوياً، بظاهرة غريبة لم نشهدها تاريخياً، وهي دليل واضح على تكوّن الفقاعة التي كلما ازداد حجمها أصبح التصحيح المرتقب فيها أقسى.
ويحذّر الرفاعي من أن العملات المشفرة ليست لديها مواصفات العملة التي عادة ما تكون التقلبات فيها قليلة للحفاظ على القيمة، ولكن التذبذبات الكبيرة على العملات الرقمية تجعل من الصعب الحفاظ على القيمة الفعلية للوحدات المشتراة، ويذكر الرفاعي أنه في ديسمبر (كانون الأول) 2017 انهارت هذه العملات وتراجعت بيتكوين من مستوى الـ 20 ألفاً إلى 3 آلاف، لتبدأ بعدها مرحلة الارتفاع وصولاً إلى مستوى الـ 45 ألف دولار للوحدة حالياً.
ويتوقع أن يستمر الارتفاع إلى مستويات تفوق الـ 50 ألف دولار للوحدة، لكن لن يصل سعرها إلى 100 ألف، فالارتفاع الشديد، وفق الرفاعي، سيليه تصحيح شديد، ولكن السؤال الأهم، متى؟
عودة إلى الجذور
يبيّن المدير التنفيذي لشركة CNEPHO المتخصصة بتطوير العملات الرقمية ميشال الهبر أن الموقع Bitcoin.org تم تسجيله في 18 أغسطس (آب) 2008، وفي 31 أكتوبر (تشرين الأول) تمت إضافة رابط إلى الموقع لورقة كتبها ساتوشي ناكاموتو، أطلق من خلالها نظام النقد الإلكتروني.
وفي 9 يناير (كانون الثاني) 2009، تم إنشاء شبكة بيتكوين، عندما قام ناكاموتو بما يعرف بالتعدين.
أما أهم أسباب نشوء العملة، وفق الهبر، فهو مواجهة الممارسات السيئة في العمليات المصرفية، وتحديداً الديون وعمليات طبع النقد الورقي غير المقوّم بالذهب، فالمال بحسب الهبر هو انعكاس للطاقة التي تضعها في المجتمع، وهو يمنحك سبلاً للتفاعل وتبادل السلع والخدمات، وعندما تم اختيار الذهب لاستخدامه كنقود في أولى التداولات التجارية عالمياً، فذلك لأنه لا يمكن نسخه بشكل سهل، كما يصعب تعدينه إلى عملة، وإيجاده كمعدن يعطيه قيمة وخاصية للتداولات، فالنقود الورقية بدأت في الأصل كإيصال في مقابل مبلغ من الذهب، وعندما بدأ الناس في استبدال هذه الإيصالات، قام البنك بطباعة مزيد من القسائم للمطالبة بالكمية نفسها من الذهب، فترك الناس الذهب في البنك واستخدموا القسائم.
ويشير الخبر إلى أنه حالياً لم تعد النقود الورقية مدعومة بالذهب، فعندما تحتاج الحكومات والبنوك إلى المال، فإنها تطبعها لتنخفض تلقائياً القوة الشرائية للناس وقيمة العملة الورقية.
من هنا، تم إنشاء بيتكوين لتكون بديلاً عن الورقة النقدية، وتكون قوية وذات قيمة مثل الذهب، كما حرِص من خَلق العملة الرقمية على إعطاء مقتنيها فرصة أن يكون مصرفاً لذاته، فيخلق حسابه الخاص ومحفظته الخاصة، ويقوم بالعمليات المالية من دون الحاجة إلى وسيط.
وجدت لتبقى
العملات الرقمية، بحسب الهبر، خلقت لتبقى ولن تختفي، فالأرقام تشير إلى وجود ما بين 5.8 مليون و11.5 مليون محفظة تخزّن بيتكوين وعملات رقمية أخرى، وإذا اعتبرنا أن كل متداول يمتلك محفظتين، فذلك يعني أن ما بين 2.9 مليون إلى 5.8 مليون شخص هم من المستخدمين النشطين للعملات المشفرة، والرقم يرتفع يومياً بخاصة بعد تبني رئيس شركة تسلا ألون ماسك لـ بيتكوين، واستثماره 1.5 مليار دولار فيها، وقبولها كعملة لشراء سياراته.
دخول ماسك إلى ميدان العملات المشفرة غيّر بالتأكيد واقع ومستقبل العملات الرقمية عموماً وبيتكوين خصوصاً، وهذا من شأنه أن يدفع الأسعار إلى مزيد من الارتفاع خلال المرحلة المقبلة.