قبل 29 مارس الجارى و 26 مايو المقبل أعاد الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون تقديم رؤيته المميزة عن أوروبا المتجددة التى يريدها فى رسالة نشرت الثلاثاء فى 28 دولة أوروبية تناول فيها تأثير الأجواء المضطربة التى تعيشها القارة فى ظل أقتراب الموعد الاول المفترض لخروج بريطانيا من الاتحاد و تجهيز المسرح للموعد الثانى حيث الأنتخابات الاوروبية المؤثرة ... و لكن ما هو المشروع الاوروبى لماكرون ؟!
أولا ... فى عام 1973 و قبل مولد ماكرون بأربع سنوات نالت بريطانيا عضوية المجموعة الاقتصادية الاوروبية بعد مرتين من الرفض الفرنسى بين عامى 1963 و 1967 ، الأمر الذى يلقى الضوء على جذور الحساسية التاريخية من دور بريطانيا المراوغ فى بناء تكتل أوروبى قوى ... و هو ما أنسحب على مشهد بريكست الحالى و طلقات المخاطر المستمرة التى تصوبها لندن فى قلب الوحدة الاوروبية
هذا ما جعل ماكرون يصف تعقيدات الخروج البريطانى الخشن من الاتحاد بأنه حالة هدم لكل ما سبق من جهود المخلصين فى اوروبا منذ عام 1951 حيث أول تجمع أوروبى أقتصادى ، و زاد ماكرون أن أوروبا مشروعا قوميا ديموقراطيا و ليس سوق للتبادل التجارى فقط حسب مفهوم بريكست الذى للأسف يكرس ذلك فى أذهان أكثر من 342 مليون مواطن أوروبى يتأثرون معنويا من هدم القيم الاوروبية و ماديا حيث التداعيات السلبية لأنخفاض نمو منطقة اليورو من 1.9 % الى أدنى من 1.6 % مع أتمام الانفصال البريطانى
ثانيا ... تحاول بريطانيا اجراء الخروج مبكرا قبل انتخابات البرلمان الاوروبى تحديدا فى 26 مايو القادم و ذلك مع تصاعد أحتمالات سيطرة احزاب اليمين الاوروبية على مقاعد البرلمان الجديد الذى سيملك سلطة رفض الاتفاق الحالى بين الاتحاد الاوروبى و بريطانيا التى تملك نحو 73 مقعدا من أصل 705 مقعد يعاد توزيعها على الاعضاء ... مما يحول دور البرلمان الجديد مع أحتمال وجود مسمار بريطانى غليظ من الاحتجاج الناعم الى العرقلة المباشرة لأى أتفاق يقوم به الاتحاد
و هذة النقطة المهمة تثير مخاوف ماكرون كثيرا من نمو الشعبوية الاوروبية التى تروق للرئيس الامريكى دونالد ترامب من جهة و من تأثير الكترونى محتمل لروسيا على سير الانتخابات الاوروبية من جهة أخرى وصولا لتفكك الكيان الاوروبى بسبب نمو انطواء القوميات على نفسها ، لذلك أقترح ماكرون فى رسالته أنشاء الوكالة الاوروبية لحماية الديموقراطيات لعدة أهداف ابرزها منع التمويل و الدعم الاجنبى للأحزاب الاوروبية و منع التلاعب بنتائج الانتخابات القادمة
ثالثا ... فى نوفمبر 2018 جاءت دعوة ماكرون الصريحة بأنشاء جيش اوروبى موحد و مستقل عن حلف الاطلنطى بقيادة الولايات المتحدة التى عبرت عن غضبها من ذلك المقترح عبر ترامب الذى أخذ يفند مزايا التحالف الامريكى الاوروبى فى شئون الدفاع من جهة و صب أنتقاداته على سياسات ماكرون الداخلية من جهة اخرى ... الغريب أن مظاهرات السترات الصفراء أخدت زخمها الكبير بعد انتقادات ترامب لماكرون ، رغم أنها بدأت قبل تصريحه عن جيش اوروبا بأسبوعين ، فهل هذة مصادفة ؟! ...
المهم دعوة ماكرون بشأن وحدة الدفاع الاوروبى تكررت عبر رسالته للمرة الرابعة منذ تنصيبة رئيسا ، الاولى كانت فى السوربون 2017 و الثانية فى المانيا مايو 2018 و الثالثة اثناء لقائة ترامب بعدها بستة أشهر ، و الرابعة فى رسالته التى حملت توجها عمليا حيث أقترح أبرام معاهدة الدفاع و الأمن الاوروبية و مجلس الأمن الاوروبى بمشاركة بريطانيا فى موازة حلف الاطلنطى الذى يتراجع دوره تدريجيا عبر تلك الاقتراحات الفرنسية التى تتزامن مع أنتهاء ميزانية الاتحاد الاوروبى ذات سبع سنوات فى عام 2020 و التى تقدر بنحو تريليون يورو بمساهمة 28 دولة تدفع نحو 1 % من الناتج المحلى الاجمالى لكل دولة و التى تلزم بريطانيا بدفع حصتها فى الميزانية الحاليه حتى 2020
أما الميزانية الجديدة فى 2021 توصى بزيادة حصص الدول من 1 % الى 1.2 % من الناتج المحلى الاجمالى لتعويض الانحساب البريطانى و لمواجهة تحديات الامن و الدفاع و الهجرة للسبع سنوات القادمة ، و هو الاتجاة المتفق عليه من فرنسا و المانيا و اسبانيا و تعارضه كلا من الدنمارك و السويد و النمسا حيث أن النظام الحالى للحصص المالية أقل أفادة لهم من مساهمتهم الحالية فى ميزانية الاتحاد الاوروبى .
رابعا ...كما يذهب ماكرون فى رسالته الى قلب الأمن الداخلى الاوروبى مداعبا جموع المواطنين فى القارة عبر دعوته لمراجعة أتفاقية شيجين التى تلغى الحدود بين 22 دولة أوروبية حيث يدعو إلى تشديد المراقبة على الحدود لتقليص مخاطر اللجوء و الارهاب و الهجرة الغير الشرعية و ذلك عبر أنشاء شرطة حدود موحدة و جهة مشتركة للجوء تحت قيادة مجلس أوروبى للأمن الداخلى .
و لأن الامن الداخلى لا يقف عند الجانب الامنى فقط بل الاقتصادى و الاجتماعى و البيئى أيضا ، فقط أقترح ماكرون الأتى :-
- حد أدنى للرواتب فى أوروبا يتفق عليه فيما يعرف بالدرع الأجتماعى تقر أليته سنويا
- تفعيل مبدأ التفضيل الاقتصادى الاوروبى لحماية مصالح القارة الاقتصادية خاصة مع افريقيا مصدر المهاجرين الرئيسى و حيث النفوذ الفرنسى هناك
- أنشاء وكالة اوروبية للصحة العامة خاصة مع تراجع قدرات و عدد القوى العاملة الاوروبية
- أنشاء البنك الاوروبى للمناخ لتعزيز أفكاره الخاصة بالنقلة البيئية التى تستغنى عن الطاقة التقليدية لصالح الطاقة النظيفة .
- أنشاء المجلس الاوروبى للابداع للرقابة على الانترنت و المنافسة فى تطورات الاقتصاد الرقمى و دعم الشركات الناشئة الاوروبية فى مجال الذكاء الصناعى فى مواجهة الشركات الامريكية و الصينية تحديدا .
ختاما ... يبدو أن الشاب الرئيس ماكرون 42 عاما يريد أن يتخلص من أزاماته الداخلية بطرح عام كبير على المستوى الاوروبى ، و يريد زعامة حقيقة مع أقتراب غروب المستشارة الالمانية انجيلا ميركل فى عام 2021 حيث أنتهاء ولايتها الاخيرة ، و يريد أستعادة مجد أوروبا مستغلا توقيت تناطح أمريكا و الصين و أنفصال بريطانيا ... أنه يريد اوروبا بنكهة فرنسية خالصة ... فهل ينجح ؟! ... ربما