بعد دعوات متزايدة لمحاربة التضخم، أخيرًا تخلى الاحتياطي الفيدرالي عن وضع الترقب والانتظار، وفعّل وضع مكافحة التضخم، الذي وصل لأعلى مستوياتها في 40 عامًا في الولايات المتحدة، إذ سرع المركزي الأمريكي من سحب الحوافز الضخمة التي قدمها لإنقاذ الاقتصاد في وقت كان تدمر فيه شراسة الوباء الأخضر واليابس.

وبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في شراء السندات أثناء الوباء كوسيلة للحفاظ على انخفاض تكاليف الاقتراض عبر الاقتصاد ومنع أي اضطرابات في السوق، مع خفض أسعار الفائدة لمستوى قياسي منخفض عند مستوى يتراوح بين صفر و0.25%، لكن مع انحسار الفيروس وبدأ الاقتصاد مرحلة التعافي، خرج الطلب المكبوت ليفجر معضلة التضخم.

وفي بداية العام، قلل أعضاء الفيدرالي من خطر ارتفاع معدلات التضخم، مشيرين أنه أمر عابر، لكن مع التسارع الأكثر حدة للأسعار، أصبحوا أكثر قلقًا وقرروا اتخاذ إجراءات أكثر استباقية، لذلك لم نرى كلمة مؤقتة في أحدث بيان الفيدرالي، والتي استخدمها في الماضي لوصف الضغوط التضخمية، ما يعني أن المركزي الأمريكي يمهد الطريق لزيادة محتملة في أسعار الفائدة العام المقبل.

 

موقف الفيدرالي

في مسعى لمواجهة التضخم المتسارع، قرر الفيدرالي الأمريكي في اجتماع السياسة النقدية الأسبوع الماضي، زيادة وتيرة خفض مشتريات السندات إلى 30 مليار دولار شهرياً بداية من يناير المقبل، إذ سيقلص وتيرة مشترياته من سندات الخزانة بقيمة 20 مليار دولار شهريًا، ويخفض برنامجه لشراء الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري بمقدار 10 مليارات دولار.

ويضع هذا القرار البرنامج التحفيزي من قبل الفيدرالي على المسار الصحيح لإنهائه بحلول مارس المقبل، بدلًا من منتصف 2022، كما كان معلن مسبقًا، لأنه سيترك المشتريات الشهرية عند 40 مليار دولار لسندات الخزانة و20 مليار دولار للأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري.

ورغم اتخاذه أحد أكثر القرارات تشددًا للسياسة النقدية منذ سنوات، أعطى المركزي الأمريكي لنفسه الحق في تغيير وتيرة المشتريات الشهرية مرة أخرى إذا تطلبت التوقعات الاقتصادية ذلك، خاصة في القلق الذي يفرض متحور أوميكرون، مع تزايد إصابات كورونا عالميًا.

ومن شأن الإسراع في خفض مشتريات الأصول -التي كانت 120 مليار دولار شهريًا في بداية الوباء- أن يسمح للبنك المركزي الأمريكي برفع معدلات الفائدة في وقت أسرع من المتوقع، لمواجهة ضغوط الأسعار، إذ يرى صناع السياسة النقدية إمكانية رفع معدل الفائدة ثلاث مرات في العام المقبل، بعدما كانوا لا يتوقعون أي زيادة حتى 2023 على الأقل، حينما ضرب الوباء الاقتصاد العالمي.

هل خرج التضخم عن السيطرة؟

اتخذ الاحتياطي الفيدرالي موقفًا أكثر تشددًا ضد التضخم، بعد أن قفزت أسعار المستهلكين في نوفمبر الماضي بنسبة 6.8% على أساس سنوي، وهو ما يُعد أكبر ارتفاع فيما يقرب من أربعة عقود، حيث خيّم التضخم على كل شيء، إذ زادت أسعار المواد الغذائية 6.4%، كما ارتفعت تكلفة الطاقة، التي تشمل البنزين والكهرباء، بنسبة 33% عن العام الماضي، والتي قد تكون أكثر ديمومة مع تحول الاقتصاد العالمي نحو الطاقة المتجددة.

 

ورغم كل ذلك، يرى رئيس الفيدرالي جيروم باول، أن التضخم لم يخرج بعد عن سيطرة البنك المركزي، وأنه يمثل مشكلة قصيرة الأجل، لأن تكاليف الاستهلاك وأزمة سلسلة التوريد، التي تسبب فيها الوباء، هما المحرك الرئيسي وراء أزمة ارتفاع الأسعار، والتي يجب أن تتراجع عندما تتحسن التوقعات الاقتصادية، لكن الأمر المؤكد أن الفيدرالي لم يعد يأخذ وجهة نظره هذه كأمر مسلم به، وإلا لم يُسرع وتيرة تقليص التحفيز المرتبط بالوباء بهذه السرعة.

ورغم الارتفاع الحاد للتضخم، والذي بات واضحًا للجميع أنه ليس مؤقتًا، فإن الفيدرالي لم يستخدم حتى الآن الأداة التقليدية لإبقاء التضخم تحت السيطرة، وهى رفع أسعار الفائدة، وهذا على عكس ما قام به بنك إنجلترا، الذي اتخذ قرارًا جريئًا ومفاجئًا ورفع معدل الفائدة 15 نقطة أساس إلى 0.25%، للمرة الأولى منذ بداية الجائحة، مع تسارع التضخم في بريطانيا لأعلى مستوى منذ في عقد من الزمن.

في الحقيقة، قد يكون للفيدرالي بعض الحق في هذا، لأن تكاليف الاقتراض المرتفعة عادةً ما تؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، وفي الوقت الحالي لا يزال هناك قدر كبير من عدم اليقين بشأن الشكل الذي سيبدو عليه اقتصاد الولايات المتحدة بعد الجائحة، خاصة وأن متحورات كورونا لا تزال تعطي جرس إنذار بين الحين والآخر.

ورغم هذه الشكوك، رفع الفيدرالي الأمريكي توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي العام المقبل إلى 4%، مقارنة مع 3.8% سابقًا، بعد نمو متوقع للعام الجاري بنحو 5.5%، كما يتوقع تراجع معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى 3.5% في 2022.

وفي أحدث تقرير شهري للوظائف، أظهرت البيانات انخفاض معدل البطالة بشكل حاد من حوالي 15% في أبريل من العام الماضي حينما بدأت عاصفة الوباء، ليصل إلى 4.2% الشهر الماضي، ولكن لا يزال هناك حوالي 4 ملايين عامل أقل مما كان عليه قبل تفشي الجائحة.

 

في النهاية، هل ينجح الاحتياطي الفيدرالي في فرض قبضته على ارتفاع معدلات التضخم، أم يصبح صعود الأسعار طويل الأجل، ويندم المركزي الأمريكي على عدم رفع الفائدة سريعًا، حينما يضرب الركود التضخمي أكبر اقتصاد في العالم؟