( لقد أنقذنا إقتصاد بلادنا ) , هكذا علق وزير المالية التركي نور الدين نبطي على الإجراءات الاقتصادية غير العادية التي اتخذتها أنقرة، لانتشال الليرة التركية من أدنى مستوياتها على الإطلاق، وهو ما حدث بالفعل، لكن الحرب الروسية الأوكرانية تخاطر بالمزيد من التحديات للاقتصاد التركي، خاصة فيما يتعلق بالارتفاع الحاد لأسعار الطاقة العنصر الأساسي في فاتورة الواردات التركية!!

 

ويتزامن ذلك مع ارتفاع معدل التضخم لأعلى مستوياته منذ عقود؛ إذ تتحرك البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم لرفع أسعار الفائدة، بما في ذلك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي قرر رفع الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية للمرة الأولى منذ 2018، كما رفع بنك إنجلترا سعر الفائدة للمرة الثالثة منذ ديسمبر الماضي من 0.50% إلى 0.75%.

 

ورغم هذه التحديات ، لا تزال تركيا تسير عكس هذه العقيدة الاقتصادية، حيث تجادل الحكومة بأن رفع أسعار الفائدة يؤدي في الواقع إلى تفاقم التضخم بدلاً من ترويضه، إذ تعمل خطط أنقرة على سد عجز حسابها الجاري من خلال تعزيز النمو الذي يركز على الصادرات وتثبيت عملتها من خلال اطلاق برنامج حماية ودائع الليرة المثير للجدل !!

 

وعلى الرغم من قفزة التضخم هذه ، أبقى المركزي التركي على أسعار الفائدة دون تغيير للشهر الثالث على التوالي، عند 14%، بعد سلسلة من التخفيضات العام الماضي، تسببت في أزمة عملة ودفعت تكاليف المعيشة للارتفاع بشكل كبير , حيث استمر معدل التضخم في الارتفاع إلى أعلى مستوياته في 20 عامًا، مسجلًا 54.4%، ورغم ذلك يرى المركزي التركي أن التضخم مدفوع بارتفاع تكاليف الطاقة الناتجة عن الصراع الإقليمي بين روسيا وأوكرانيا، لكن هذا يزيد من العجز التجاري لتركيا، وسط ارتفاع أسعار النفط بما يقرب من 50% هذا العام وانتعاشها فوق مستويات 100 دولار للبرميل.

 

وفي محاولة لتعزيز النمو الاقتصادي في أعقاب صدمة الوباء، مارس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضغوطه المعتادة على البنك المركزي لخفض تكاليف الاقتراض، وهو ما دفع البنك إلى خفض الفائدة بمقدار 500 نقطة أساس منذ سبتمبر 2021، لتستقر عند 14% في ديسمبر الماضي.

 

والغريب في الأمر أن معدل التضخم في تركيا وقت عمليات خفض الفائدة كان لا يزال أقل من 20%، الأمر الذي أدى إلى انهيار الليرة التركية إلى أدنى مستوى على الإطلاق عند 18.36 مقابل الدولار، مع فقدان 45% من قيمتها تقريبًا في 2021، لتتفاقم أسعار المستهلكين المرتفعة بالفعل بسبب اعتماد تركيا على الواردات , حيث حاولت الحكومة التركية اتخاذ تدابير غير تقليدية لمواجهة هبوط الليرة بدلاً من رفع الفائدة، من خلال التشجيع على تحويل المدخرات من العملات الأخرى إلى الليرة، عبر ضمانات تعهدت الحكومة بدفعها للمودعين لتعويض الخسائر الناجمة عن تراجع العملة التركية وحماية المدخرات من تقلبات سعر الصرف

 

بكل تأكيد أسهمت هذه الإجراءات الاستثنائية ، إلى جانب تثبيت الفائدة في الأشهر الأخيرة، في تقليص خسائر الليرة بشكل حاد لتهبط امام الدولار من من 18 ليرة الى 10 ليرات خلال بضع ايام ولتستقر الان أمام الدولا بين 13 و14 ليرة لكل دولار ، لكن ضغوط الحرب الروسية الأوكرانية دفعتها إلى التراجع مجددًا حول مستويات 14 ليرة للدولار.

 

ورغم ذلك، فإن الوضع بالنسبة إلى الليرة التركية لا يزال مستقرًا نسبيًا، مع استمرار تدخل البنك المركزي، الذي يبيع الدولار ويشتري الليرة في أوقات الاضطرابات في محاولة لدعم العملة المحلية , وهذا ما جعل الرئيس رجب طيب أردوغان يشيد بفترة الهدوء الأخيرة التي شهدتها الليرة التركية، ووصفها بأنها علامة على اقتراب الاقتصاد من دخول أقوى فترة في تاريخ تركيا، لكن من يأمن غدر الحرب القائمة حاليًا؟

 

في الواقع، ما إن بدأ مفعول إجراءات الحكومة لإنقاذ الاقتصاد في الظهور مع أوائل العام الجاري، حتى ضغط الغزو الروسي لأوكرانيا على اقتصاد تركيا، حيث يهدد بمزيد من ارتفاع معدل التضخم، الذي بدوره يفاقم التحديات الاقتصادية، خاصة وأن تقديرات البنك الدولي تشير إلى أن زيادة أسعار المستهلك بنسبة 1% في تركيا تؤدي إلى زيادة عدد الفقراء بنسبة 2%.

ومع اعتماد تركيا بشكل كبير على روسيا وأوكرانيا في تلبية احتياجاتها، وجدت الحكومة نفسها في مأزق جديد، مع حقيقة أن طرفي الصراع من بين شركائها الاقتصاديين الرئيسيين، في عدة القطاعات من السياحة حتى الطاقة.

 

فعلا سبيل المثال في القطاع السياحي ، فإن الروس والأوكرانيين من أكبر الزوار الأجانب إلى تركيا، وبالطبع تؤثر الحرب القائمة في تدفق السياح من هذين الدولتين، مما يهدد بفقدان مصدر حيوي لإيرادات الدولة، ومن ثم عدم الوفاء بتحقيق هدف أنقرة البالغ 35 مليار دولار من عائدات السياحة في 2022، بعد قفزة كبيرة العام الماضي تجاوزت 100% إلى 24.5 مليار دولار، وفق بيانات معهد الإحصاء التركي.

*عائدات السياحة على أساس فصلي

 

أما في قطاع الطاقة، فإن روسيا هي المورد الرئيسي لتركيا، حيث تلبي أكثر من 33% من احتياجات الغاز الطبيعي للبلاد، ومن شأن ارتفاع أسعار الطاقة أن يفاقم الضغط على الموازنة التركية تلتي تكافح لتقليل العجز الحالي، خاصة وأن تركيا أنفقت 51 مليار دولار على الطاقة العام الماضي.

 

لا ينكر أحد أن واردات الطاقة أبرز القيود الرئيسة أمام الاقتصاد التركي، لما تُشكله من ضغوط على الموازنة، خاصة مع ارتفاع أسعار النفط فوق 115 دولارًا حاليًا، في الوقت الذي تشير فيه بعض التقديرات أن كل زيادة قدرها 10 دولارات في سعر النفط تضيف 5 مليارات دولار إلى عجز الحساب الجاري لتركيا !!

 

الأمر لن يتوقف على هذا الحد، حيث سيواجه الإقتصاد التركي تحديات أخرى في توفير الإحتياجات الغذائية الأساسية، إذ تمثل روسيا وأوكرانيا ما يقرب من 80% من واردات تركيا من الحبوب، مما قد يدفع البلاد إلى البحث عن مصادر أخرى.

 

أما من ناحية الحركة الفنية المتوقعة , مع تداول اسعار الليرة اليوم 23 مارس قرب 14.80 دولار نعتقد الفرصة متاحة للصعود نحو مستويات بين 15.25 – 16.50 ليرة لتشكل مستويات مقاومة يتوقع العودة منها الى مستويات 12 ليرة بالحد الادنى

 

ومع كل هذه التحديات، يتوقع البنك الدولي تباطؤ نمو اقتصاد تركيا إلى 2% هذا العام، بعد نمو بلغ 11% في العام الماضي، لكن في الحقيقة، لا تزال الصورة غير واضحة مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية والتي قد ترفع التضخم أكثر وأكثر، فهل يفكر البنك المركزي وقتها في رفع الفائدة؟ في حين أصبح لديها تعهد اما مودعين بالليرة التركية لضمان قيمة الودائع امام سعر صرف الدولار !!