ماذا يحتاج العالم مجلس إدارة أم مجلس حرب؟! تريد الصين مجلس إدارة لاقتراب تساوى القوى بينها وبين الولايات المتحدة على الارض، أما الاخيرة تريد الاثنين معا بزعامة أمريكية منفردة للحفاظ مع مبدأ مجمع الأضداد الذي قامت على أساسه.
العالم الآن يشاهد صراعا يتصاعد بين الامبراطورية الأمريكية المنتشرة حوله بقواعدها الاقتصادية والعسكرية وقوتها الناعمة الهائلة وبين الامبراطورية المتمددة حول المركز المتمثلة في الصين، صراع له واجهة إعلامية جاذبة على وقع مشاهد الحرب التجارية بين الندين، وله وجهات أخرى أكثر عمقا وأكبر أثرا تحتاج إلى مزيد من الأضواء لفهمها وحسن تقدير التعامل معها.
الصين التي تتعامل مع أطرافها الملتهبة بالحكمة السياسية والقدرات الاقتصادية والعسكرية تواجه تحديات متراكمة من نزاعات حدودية أبرزها مع الهند غربا إلى الهيمنة الأمريكية على كل من تايوان وكوريا الجنوبية واليابان شرقا، وصولا إلى بحر الصين الجنوبي الذى يؤكد جديا أن الاخطبوط الصيني يلف اذرعه حول كل متسع يطوله، وظهر ذلك جليا في إعلان الصين العام الماضي عن شروعها في بناء 50 جزيرة صناعية فيه بحلول عام 2030.
أهمية بحر الصين الجنوبي
أولا، هو جزء هائل من المحيط الهادي تبلغ مساحته نحو 3.5 مليون كم2 وتشترك فيه سبع دول هي الصين - الفلبين - فيتنام - ماليزيا - بروناي - تايوان - اندونيسيا ويشمل اثنين من الممرات التجارية الهامة وهما مضيق بلقا ومضيق تايوان.
ثانيا، تتنازع الدول السبع على السيادة بدرجات متفاوتة على سلسلتين من الجزر باراسيل وسبراتلي الخاليتين تقريبا من الكثافة السكانية، وتعكس المشاهد المستمرة للطلعات الجويـة والدوريات البحرية من قبل الصين سيطرة نسبيه على تلك الجزر بجانب إثارة القضية دبلوماسيا بأحقية الصين في السيادة الكاملة على بحر الجنوب.
ثالثا، لا تمل أمريكا من تصدير المناوشات كل فترة في بحر الجنوب والتي كان آخرها قبل أيام حيث أعلنت البحرية الأمريكية عن الاشتراك مع البحرية الملكية البريطانية في مناورات عسكرية جديدة في بحر الصين لم تحدث منذ عام 2010، بالإضافة لاستمرار التعزيزات العسكرية القريبة من تلك الجزر وتعاون متنامي مع دول البحر المناهضة للصين، وكل ذلك تحت عنوان حماية حرية الملاحة البحرية، إلا أن الصين تتمدد في إنشاء الجزر الصناعية وتنشر قواتها العسكرية وتعيد التأكيد على مفهوم خط الخطوط التسع الذى يزعم بالسيادة الصينية على البحر كله، بجانب اشعال متقطع للاتهامات الإعلامية بين الجانبين الأمريكي والصيني لما للبحر من أهمية اقتصاديه وسياسية كبرى .
رابعا، تمر عبر بحر الصين الجنوبي أكثر من 35 في المائة من تجارة الشحنات البحرية العالمية، فمن خلال مضيق بلقا يمر النفط القادم من المحيط الهندي إلى شرق آسيا وكذلك من 60 إلى 80 في المائة من امدادات الطاقة المتجهة إلى كوريا الجنوبية وتايوان واليابان
خامسا، تجارة النفط العابرة لمضيق بلقا ببحر الصين الجنوبي تعادل 15 ضعف ما يمر بقناة بنما ونحو ثلاثة أضعاف ما يمر بقناة السويس من كميات نفطية خلال العام الواحد.
سادسا، حسب التقديرات الرسمية الصينية فأن باطن بحر الصين الجنوبي يحتوي على احتياطي نفطي مؤكد يبلغ 10 مليار برميل، وكذلك ثروة هائلة من الغاز الطبيعي بنحو الف تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي لم تخرج بعد للنور، وتتنامى مزاعم الصين بأن هذا البحر كنز الكنوز فهو يزخر بأكبر احتياطي نفطي عالمي غير مؤكد، بالإضافة للثروات المعدنية والسمكية الكبيرة التي تمثل مصادر دخل هامه للدول السبع المحيطة ببحر الجنوب.
ماذا تفعل الصين في البحر؟
إذن نحن امام مشهد مهم للغاية يتجاذب أطرافه المترامية أقوى اقتصادين في العالم الصين والولايات المتحدة الأمريكية بعين برجماتية مستقبلية خالصة، لضمان التفوق الاستراتيجي ولحماية أمن الطاقة العالمي بجميع أنواعه، وهو الامر الذي دفع الصين مؤخرا لترجمة صبرها التاريخي إلى ردود أفعال حقيقية تستكمل بها أسباب قوتها وذلك جاءت على النحو التالي:
اولا ، رد الصين الفوري على مغازلة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المستمرة لتايوان الغير معترف باستقلالها وتهديده لمبدأ الصين الواحدة، جاء الرد من خلال افتتاح الرئيس الصيني شي جين بينج لعام 2019 بتصريح مهم حين قال إعادة تايوان إلى حضن الصين أمر لا مفر منه ونفكر في استخدام القوة العسكرية إذا لزم الأمر ضد حلفاء تايوان إذا قاموا بإعاقة ذلك
ثانيا ، السفن الأمريكية التي تمر على مقربة 10 أميال بحرية من مياهنا الاقليمية تعد استفزازا سافرا يدعونا لبناء المزيد من الجزر الصناعية والعمل على تحصينها هكذا صرحت الخارجية الصينية قبل الإعلان عن المشروع العملاق ببناء 50 جزيرة صناعية إضافية في بحر الجنوب بحلول عام 2030.
ثالثا ، حاجز الصين العظيم هو الاسم الذي أطلقته الصين على مشروع الخمسين جزيرة الذي يقضي بإقامة حاجز بطول 1000 كم بعرض بحر الصين الجنوبي ويحوله لمسطح مائي شبه مغلق يسيطر بشكل كبير على كل السفن المارة به، وهو ما يوسع من المياه الاقليمية الصينية لنحو 12 ميل بحري من الجزر المزعم إنشائها وبالتالي ابعاد خطر مرور السفن الأمريكية بتلك المنطقة.
ثالثا ،خلال العقد الأخير ضاعف التنين الصيني من قدرته على التجريف البحري بنحو ثلاث مرات عبر شراء أكثر من 200 سفينة مخصصة لتلك الأعمال وبناء اسطول خاص متطور يرفع القدرة التجريفية من 4500 متر مكعب في الساعة إلى 6000 متر مكعب في الساعة وبحفر أعماق تصل إلى 35 متر تحت قاع البحر.
رابعا، اعتمدت الصين تمويلا سنويا يقدر بنحو 4 مليار دولار لتطوير ما يقرب من 10 كراكات عملاقة تدخل الخدمة تدريجيا بداية من النصف الثاني من 2018 استعدادا لبناء الخمسين جزيرة صناعية التي حسب التقديرات ستساهم في انكماش المساحة المعروفة للمحيط الهادي بنحو 5 في المائة وهو ما يتطلب تعديلات جوهرية في قوانين البحار الدولية التي تنتقدها الصين كثيرا.
خامسا ،عبر هذا الحاجز العظيم تنشر الصين مطاراتها وموانئها العسكرية المستقبلية وتعيد اكتشاف الثروات المختزنة في بحر الجنوب لإحياء الإرث التاريخي القديم ولمد الوطن الأم باحتياطيات مؤمنة من الطاقة والغذاء لأكبر دولة ذات كثافه سكانية واستهلاكية على وجه الأرض.
ختاما ، وبعد هذا المشهد المركب والمتراكم لحظيا تطفو الأسئلة الصعبة في انتظار الأجوبة الكاشفة خلال السنوات القادمة وهي، بأي سيناريو ستحسم الصين قضية البحر لصالحها؟ وكيف سيواجه الفيل الأمريكي تلك الرغبة الجامحة للأخطبوط الصيني الذي يتمدد بثقه تاريخية تمكنه من الانفراد بالسيطرة والتفوق العالمي؟!، وما هو شكل الاقتصاد العالمي خلال الخمسين عاما القادمة وما هو مستقبل أسعار الطاقة مع سعي الصين للاكتفاء ذاتيا إذا صدقت أنباء كنوز بحر الجنوب؟!