هناك مفهوم ضمني للصعود الكبير خلال العام الحالي للأصول الأميركية التي تحمل مخاطر استثمارية يتمثل في أنه حين يتعلق الأمر بالدولار فإنه لا يوجد بديل عن تلك الأصول.

يعد الدولار قريباً للغاية من الرقم القياسي الذي بلغه إبان وباء كورونا، وفي مساره الصحيح لتحقيق أفضل سنة له منذ 2020، وبحسب مؤشر العملة الأميركية مقابل عملات أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة الأميركية، فإنه أعلى بنسبة 17% من متوسطه على مدى العقدين الماضيين.

أدت المؤشرات واسعة النطاق، على استمرار قوة الاقتصاد الأميركي، إلى تعزيز الارتفاعات الأخيرة، وأجبر صمود الاقتصاد المضاربين عبر الأسواق على التخلي سريعاً عن توقعات إزاء بدء عملية تيسير السياسة النقدية الوشيكة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. يواجه أصحاب الرهانات على تراجع الدولار حالياً احتمال استمرار أسعار الفائدة الرئيسية العالية لفترة أطول، ما من شأنه دعم العملة الأميركية. لكن قوة الدولار تعود لأسباب أبعد من ذلك.

تعزز الركائز الرئيسية للدعم -بداية من نمو الإنتاجية الأميركية والديناميكية الاقتصادية وصولاً إلى سيل من تدفقات الاستثمار في الأصول الأميركية والقدرة التكنولوجية المحلية في المجالات الحيوية مثل الذكاء الاصطناعي- الدور المهيمن للدولار بوصفه عملة احتياطية عالمية رغم أي صعود أو هبوط قصير الأمد. يجب أن تخفف هذه العوامل الاقتصادية الأساسية من تأثير تخفيضات أسعار الفائدة الفيدرالية في حال حدوثها، وعن طريق إبقاء الاقتصاد الأميركي أمام أقرانه العالميين، يدعم سردية الحالة الاستثنائية الأميركية في المستقبل القريب.

لا يوجد بديل

قال ثيميستوكليس فيوتاكيس، رئيس وحدة استراتيجية الصرف الأجنبي في بنك باركليز في لندن: لا يوجد بديل للدولار حيث تتعلق قوته بعوامل الاقتصاد الكلي طويلة الأجل، وهي لا تمثل دورة اقتصادية بل تمثل اتجاه عام.

خلال الأسابيع الأخيرة، تراجع لاعبون كبار عن الرهانات الهبوطية التي تم إجرائها في ديسمبر الماضي. وقلص مضاربون غير تجاريين - مجموعة تضم صناديق تحوط وشركات إدارة أصول ومستثمرين مضاربين – مراكزهم الاستثمارية البيعية للدولار لدرجة أنها ثابتة عملياً، بحسب أحدث بيانات صادرة عن لجنة تداول السلع الآجلة.

 

ذكر كانديس بانغسوند، مدير محفظة في شركة إدارة الأصول فييرا كابيتال، ومقرها مونتريال، أن إعادة تقييم توقعات بنك الاحتياطي الفيدرالي شكلت تعديلاً ضخماً. وتابع: تحركت التوقعات كثيراً بالنسبة لسوق السندات ومن الواضح أن ذلك ينتشر في أسواق العملات أيضاً.

رفع خبراء اقتصاد الشهر الجاري توقعاتهم لنمو الولايات المتحدة الأميركية خلال 2024 إلى 2.1% وخفضوا احتمالات حدوث ركود مقبل إلى 40%، بحسب أحدث استطلاع رأي شهري قامت به بلومبرغ لأصحاب التنبؤات من خبراء الاقتصاد.

أشار كيوشي إيشيغان، كبير مديري الصندوق في شركة ميتسوبيشي يو إف جي أسيت مانجمنت (Mitsubishi UFJ Asset Management) في طوكيو: إذا بقي النمو الأميركي الأعلى بين الأسواق المتقدمة الكبرى ولم تهبط أسعار الفائدة على الأصول بالدولار بطريقة كبيرة، فمن المؤكد أنه لا يوجد سبب لتراجع الدولار.

الأصول الأميركية

تجني الولايات المتحدة الأميركية فوائد -على الأقل في الوقت الراهن- من طفرة الإنتاجية التي يمكن أن تعزل الاقتصاد عن التباطؤ العالمي. لكن الآثار قصيرة المدى مجرد نتائج ثانوية لاتجاه أساسي أقوى، بحسب فيوتاكيس من باركليز.

أضاف فيوتاكيس خلال مقابلة: استثمرت الولايات المتحدة الأميركية واستمرت في مضاعفة التركيز على نموذج الأعمال الموجه بطريقة أساسية نحو تعزيز الاقتصاد المحلي بطرق لا تحظى بالتقدير الكافي. وأشار إلى زيادة إنتاج السلع الأساسية والوصول العالمي لشركات التكنولوجيا الكبرى التي يقع مقرها في الولايات المتحدة.

 

جاءت أيضاً ارتفاعات الدولار السنة الحالية بصورة ملحوظة جنباً إلى جنب مع صعود الأسهم الأميركية، وهو ما برز مؤخراً من خلال ارتفاع أسهم شركة تصنيع الرقائق إنفيديا في أعقاب صدور تقرير أرباحها القوية الأسبوع الماضي، والذي جلب إمدادات مستقرة من رأس المال إلى داخل الولايات المتحدة الأميركية. يدل تدفق هذه الأموال على العوائد طويلة الأجل والمستقرة على رأس المال، والتي أدت أيضاً لتوفير الحماية للدولار من الانخفاض.

هذا العام، ارتفع مؤشر مجموعة العظماء السبعة لأسهم شركات التكنولوجيا الكبرى، والتي تتضمن إنفيديا علاوة على شركات مثل ألفابت وأبل ومايكروسوفت، بنحو 13%، بالمقارنة مع أقل من 5% لمؤشر الأسهم العالمية. منذ سنة 2015، تفوقت أسهم العظماء السبعة على المؤشرات الأوسع نطاقاً عدة مرات.

كتبت مجموعة من خبراء استراتيجيين في وحدة عملات بنك غولدمان ساكس بقيادة كاماكشيا تريفيدي في مذكرة حديثة للعملاء أن احتمال تحقيق عوائد قوية من الأصول الأميركية يدعم الدولار ويثبت أنه من الصعب التغلب عليه، وذلك رغم أنهم أضافوا أن الدولار قد بلغ حالياً أو تخطى توقعات البنك في الأجل القريب.

الأسواق الخارجية

في تقرير منفصل السنة الماضية، قدر خبراء استراتيجيون للاقتصاد الكلي في غولدمان أن حصة الولايات المتحدة الأميركية من أصول استثمار المحفظة العالمية صعدت إلى 26% تقريباً مع حلول 2022 بالمقارنة مع حوالي 16% خلال 2005.

يأتي الأداء المتفوق للولايات المتحدة وسط تباطؤ النمو في أوروبا، إذ أشارت بيانات مكتب الإحصاء الأوروبي يوروستات الأخيرة إلى ركود النشاط الاقتصادي مع نهاية 2023، ومع تفاقم المخاوف حول قطاع العقارات الصيني المتعثر. في الصين، كشفت أرقام ميزان المدفوعات للسنة الماضية زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر بأدنى قيمة منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي.

 

قالت ميرا تشاندان، الرئيسة المشاركة لوحدة استراتيجية صرف العملات الأجنبية العالمية في بنك جيه بي مورغان تشيس، خلال مقابلة معها: يصعب القول بأن قوة الدولار تعود لعوامل دورية فقط. توجد حالة استثنائية للعوائد، وحالة استثنائية للنمو، وسجلت سوق الأسهم عوائد استثنائية بالمقارنة مع أوروبا والصين.

يتوقع خبراء جيه بي مورغان الاستراتيجيون تراجع اليورو إلى 1.05 دولار مع حلول منتصف السنة الجارية، من 1.08 دولار تقريباً في الوقت الحالي، وصعود مؤشر الدولار المرجح تجارياً بحلول يونيو الماضي قبل أن يهبط بنهاية العام.

ينجم عن هيمنة الدولار آثاراً جانبية. فعلى صعيد الولايات المتحدة الأميركية، يمكن أن يؤثر الدولار القوى على أرباح الشركات عن طرق التأثير على مبيعات الخارج، وهو خطر رئيسي نوهت إليه مؤخراً شركة الاستثمار الدولي كارلايل غروب في تقريرها السنوي.

بالنسبة للبلدان الأخرى، فإن الدولار عالي القيمة أكثر من مجرد مشكلة، فهو يفاقم تكاليف الواردات، ويزيد الضغوط التضخمية، ويمكن أن يضع صناع السياسة النقدية في موقف صعب، ما يتطلب رفع أسعار الفائدة لمنع هروب رأس المال.

تأثير السياسيات

هناك شؤون سياسية وسياسات اقتصادية واللتان تشكلان مخاطرهما الخاصة. يعتقد بعض الخبراء الاستراتيجيين في وول ستريت أن الاحتمال المتزايد لترشيح دونالد ترمب للرئاسة الأميركية سيكون إيجابياً على المدى القريب للدولار، إذ أن السياسات الاقتصادية المقترحة -مثل فرض تعريفات عالمية بنسبة 10% على السلع المستوردة- يمكن أن تدعم في نهاية المطاف الميزان التجاري للولايات المتحدة الأميركية في المستقبل القريب. لكن خطر حدوث أثر عكسي يعرض مكانة الدولار للخطر، علاوة على خليط ضار محتمل من تدهور إدارة شؤون الحكم وزيادة العجز في الولايات المتحدة الأميركية.

كتبت جوانا كيركلوند، كبيرة مسؤولي الاستثمار في المجموعة والرئيسة المشاركة للاستثمار في شركة شرودرز (Schroders)، في مذكرة حديثة: بفضل مكانة الدولار الأميركي بوصفه عملة احتياطية عالمية، كانت الولايات المتحدة الأميركية تتمتع برفاهية القدرة على إدارة عجز كبير. رغم ذلك، فإن علامات الإسراف في الإنفاق المالي من قبل المرشحين للانتخابات قد تدفع الأسواق لفقد صبرها.

حتى الآن، لم تؤثر هذه العوامل بعد على التفوق العالمي للعملة الأميركية، أو صبر الأسواق التي تدعمها.

جان لوي، كبير المستشارين في وحدة الإستراتيجية طويلة الأجل في جيه بي مورغان قال: هذه مشكلة ضخمة للمستثمرين الدوليين، فماذا ستفعل إزاء هذه السوق الأميركية الهائلة التي باتت تمثل أكثر من 60% من الأسهم والسندات على مستوى العالم. وهل بمقدورك تجاهل هذه السوق؟