1 - فى صيف عام 1971 و تحديدا فى 15 اغسطس اتخذ الرئيس الامريكى ريتشارد نيكسون عدة قرارات اقتصادية ساخنة جدا ، كان اهمها التعليق المؤقت لمعيار الذهب الملزم بقبول التحويلات الدوليه المباشره من الدولار الأمريكي إلى الذهب .. 

جاء هذا القرار الذى عرف بصدمة نيكسون فى ضوء ثلاثة معطيات كبيرة :- 

اولا ... تخفيف اثار الخسائر الفادحة التى لحقت بالميزانية الفيدرالية الامريكيه جراء حرب فيتنام 

ثانيا ... عودة معدلات النمو الجيدة فى أسيا بقيادة الاقتصاد اليابانى و فى اوروبا بقيادة اقتصاد المانيا الغربية فى ذلك الوقت 

ثالثا ... مطالبات بعض دول العالم بالذهب مقابل حيازة الدولار الامريكى حسب اتفاقية بريتون وودز التى انضمت لها الولايات المتحدة مرة اخرى عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية بعد انسحابها منها فى عام 1933  

 

2 - المشهد السابق دفع المؤشرات الامريكية لسباق كبير من الارتفاعات القياسية امتدت لقرابة العامين من يوم صدمة نيكسون لقبيل حرب 6 اكتوبر عام 1973 ، و التى ادرك العالم بعدها ان قرار تعليق معيار الذهب ليس مؤقتا كما ادعى نيكسون بل انه اعلان لنظام مالى عالمى جديد يسود فيه الدولار الامريكى كافة المعاملات التجارية العالمية ... 

 

3 - جاءت الثمانينات لتؤكد على نجاح السيطرة الاقتصادية الامريكية على العالم و اعلان شهادة وفاة اتفاقية بريتون وودز من خلال تحرير اسعار الذهب من 35 $ للأوقية الى حدود مستوى المائة دولار ... و كذلك اختراع نظام العقود الاجلة للنفط و تسعيره بالدولار الامريكى ... و منذ ذلك الوقت و العالم يشهد فى الثلث الاخير من كل عشر سنوات انفجار ازمة مالية تعيد ترتيب توازنات القوى الاقتصادية لصالح الولايات المتحدة الامريكية ... 

 

4 - واجه العالم ثلاث أزمات مالية كبرى بتوابعها بداية من الإثنين الأسود في 19 أكتوبر 1987 مرورا بزلزال أزمة أسواق شرق آسيا في يوليو 1997 وانهيار الروبل الروسي في 1998 وصولا إلى الأزمة المالية العالمية في 2008 التي خسر الاقتصاد العالمي فيها أكثر من 45% من قيمته ...

تلك الأزمات كان بطلها المعلن هو صراع السياسات النقدية بين بنوك العالم المركزية من جانب وبين الفيدرالي الأمريكي من جانب آخر، أما بطلها الخفي هو تفاعلات السياسة العالمية المعنونة تحت شعار كل الطرق تؤدي إلى الولايات المتحده الامريكية ...

 

5 - منذ مطلع عام 2016 و هناك معطيات جيوسياسية تتشكل فى الافق منذ انهيار اسعار النفط لحدود 26 $ للبرميل فى يناير ... و استفتاء انفصال بريطانيا عن الاتحاد الاوروبى فى يونيو ... و فوز دونالد ترامب بالانتخابات الامريكية فى نوفمبر من نفس العام ... 

تلك الدوائر الثلاثة اخذت فى التفاعل على المسار الايجابى الا دائرة ترامب الصاخبة التى سلكت مسارا عصبيا للغاية ...فالنفط اضاف مكاسب بلغت نحو 300 % من ادنى اسعاره فى عام 2016 بعد جهود اتفاقات خفض المعروض العالمى ... و اجراءات Brexit لم تعد تؤثر فى الاسواق و تطول الى مارس 2019 لبدء انفصال مرن لبريطانيا عن الاتحاد الاوروبى ... أما السيد ترامب بطل المشهد كله مازال يطلق قرارات المثيرة على الجميع بغية اصابة غريمتة الرئيسية الصين التى تمثل تحديا حقيقيا للاقتصاد الامريكى من خلال العجز الكبير فى الميزان التجارى بين البلدين و البالغ نحو 300 مليار $ لصالح التنين الصينى ...

 

6 - و يبدو ان درس فيتنام التاريخى يدفع  كل ادارة امريكية للعمل بعيدا عن الحل العسكرى فى اسيا ، فالأمر ينحصر فى مناوشات تتصاعد الى حد الحروب الاعلامية الملتهبه كما حدث مع كوريا الشمالية و لكن لا تصل غالبا الى المواجهة المباشرة على الارض ... و هذا ما صار واضحا الآن بعد افتتاح عروض التفاوض و السلام بين كوريا كيم و امريكا ترامب ...

اذن لابد من ادارة تشابكات المشهد المعقد بسلاح الاقتصاد الذى يناسب اسيا و يعرفه ترامب جيدا ، فتوالت الاتهامات الامريكيه للصين بأنها أكبر سارق لحقوق الملكية الفكرية و اكبر متلاعب بالعملات ضد الدولار و أكبر ساحق لملايين الوظائف الامريكية ... و ضع ما شئت من اتهامات بجانب الصين حتى نصل الى قرارات ترامب بفرض تعريفات جمركية على واردات الصلب و الالومونيوم و قائمة طويلة من السلع بين القطبين تتراوح نسبها من 10 % الى 50 % ... و هو الامر الذى قابلتة كلا من الصين و الاتحاد الاوربى و كندا و المكسيك بتعريفات مماثله على الواردات الامريكيه ... و التوعد بأجراءات اقتصادية انتقامية متبادلة تصعد المشهد من حالة الازمة الى حالة الحرب التجارية ...

 

7 - لم يغيب مسرح الشرق الاوسط بالطبع عن تلك الاحداث الملتهبة فالانسحاب الامريكى من الاتفاق النووى الايرانى يفرض ملهة زمنية تتراوح من 90 الى 180 يوم على الشركات الاوروبيه و الصينيه للانسحاب من الاسواق الايرانيه ، فعلى الاغلب ستواجه تلك الشركات عقوبات امريكية نهاية عام 2018 تفرض عليها جروحا مضاعفة مع تفعيل زيادات التعريفات الجمركيه على الواردات القادمة  الى الولايات المتحدة 

 

8 - اضف الى كل ما سبق المشاكل المزمنة فى البنوك الاوروبية خاصة اليونان و اسبانيا و  ايطاليا التى تشهد تراجعا اقتصاديا ملحوظا ... و الموجات التضخمية التى تشهدها اقتصاديات العالم الثالث و تكتم فى طياتها الغاما قابلة للأنفجار فى اى وقت ... 

و كذلك الملف المقلق حيث النمو الجنونى لمستوى الدين العالمى الذى تجاوز فى عام 2016 نحو  164 تريليون دولار و هو ما يعادل 225 % من إجمالي الناتج العالمي ... و يزيد بنحو 12 % عن اجمالى الدين العالمى حين وقوع الازمه الماليه فى عام 2008 ... و ذلك حسب تقديرات صندوق النقد الدولى الذى القى جانب كبير من المسئولية فى هذا الارتفاع على الصين بسبب ديونها الرديئة و الحكومية ... 

و لا ننسى طفرة الادوات المالية الجديدة الظاهرة  فى سوق العملات الرقمية التى استحوذت خلال عام 2017 على ما يقرب من 850 مليار $ و تمثل تحديا مختلفا امام المعاملات المالية التقليدية ربما يؤسس لنظام مالى جديد يعلن نهاية نظام السبيعينات ...

 

اخيرا ... و بعد استعراض تفاعل المعطيات السابقه يتضح حجما من الضغوط الهائلة التى يواجهها الاقتصاد العالمى ، خاصة مع المعالجات المكشوفه الخشنة من قبل ادارة ترامب مع ملفات لا تنفصل فيها السياسة عن الاقتصاد ، تنذر مع الوقت و تراكم اللاحلول بأقتراب ازمة مالية عالمية جديدة تبشر بها التحركات العصبية لمؤشرات الاسواق ... و لم تخلف موعدها منذ الثمانينات مع نهاية كل عقد ... 

 

فهل نحن جاهزون لذلك ؟!