أخيراً، أًّسدل الستار على قصة البريكست، وانتهت هذه الولادة المتعثرة باتفاق تجاري بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بعد أشهر من الشد والجذب، لكن الاقتصاد البريطاني ليس محظوظاً أن تحدث عملية الخروج في وقت معاناته الشديدة من تداعيات فيروس كورونا

 

وفي نهاية سعيدة لعقدة البريكست التي بدأت حكايتها منذ 2016، توصلت بريطانيا والاتحاد الأوروبي إلى اتفاق يحكم العلاقات التجارية بين الطرفين قبل أيام من انتهاء المرحلة الانتقالية من البريكست بنهاية العام الماضي، متجنبةً بذلك شبح الخروج الصعب بدون صفقة، والذي كان سيضرب الاقتصاد البريطاني المنهك من الوباء في مقتل

 

وفضلاً عن الاتفاق بشأن مصايد الأسماك وقواعد المنافسة وغيرها، فإن أهمية هذه الصفقة للاقتصاد البريطاني تنبع من أن السلع المتداولة بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة لن تتعرض لتعريفات أو حصص جديدة، حيث تشتري الكتلة أكثر من 40% من صادرات بريطانيا، وتوفر أكثر من نصف وارداتها، ورغم ذلك، يحذر الاقتصاديون من أن تكاليف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال كبيرة، وسوف تعيق اقتصاد المملكة المتحدة على وجه الخصوص لسنوات قادمة

ومن أجل توضيح الصورة أكثر، نحتاج إلى إلقاء نظرة على وضع الاقتصاد البريطاني قبل تداعيات عملية البريكست، لأن أي ألم اقتصادي على المدى القريب سوف يطغى على التعافي المتوقع من عام من الإغلاق غير المسبوق لاحتواء تفشي فيروس كورونا

 

ومن المتوقع أن ينكمش اقتصاد المملكة المتحدة بأكبر وتيرة في 300 عام بنحو 9.8% في 2020، بفعل تداعيات كورونا، قبل أن ينمو بنسبة 5.9% في 2021، بحسب آخر تقديرات لصندوق النقد الدولي، لكن قد يكون الوضع أسوأ، خاصة مع انتشار سلالة جديدة من الفيروس في بريطانيا والعودة للإغلاق التام للمرة الثالثة، مما قلل آمال أن يساهم اللقاح في وقف سريع لانتشار الوباء.

ورغم أن الاتفاق التجاري أفضل بكثير من البريكست الصعب، فإنه لن يجعل التوقعات وردية للاقتصاد البريطاني، فالأمر ليس بهذه السهولة، حيث إن الدخول في نظام جمركي جديد ينهي الترتيبات التجارية التي كانت سارية منذ السبعينيات، بغض النظر عن مزاياه أو عيوبه، يخاطر بحدوث اضطرابات في الموانئ وحتى نقص الغذاء في محلات السوبر ماركت، وقد تترجم على الفور إلى ضعف في النمو الاقتصادي، وارتفاع في الأسعار.

وتشير تقديرات الحكومة البريطانية إلى أن الصفقة التجارية التي تم الاتفاق عليها من شأنها أن تجعل الناتج المحلي للبلاد أقل بنسبة 5% خلال 15 عامًا مما لو لم يحدث خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكن تجنبت المملكة المتحدة الأسوأ، لأن بدون مثل هذه الصفقة، تشير التقديرات إلى أن النمو الاقتصادي سيكون أقل بنسبة 7.6%

 

في الواقع، سيظل اقتصاد المملكة المتحدة يواجه تحديات كبيرة بعد انتهاء انتقال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الأول من يناير الجاري، أولها أن الشركات البريطانية ستفقد إمكانية الوصول غير المقيد إلى الاتحاد الأوروبي، أكبر سوق تصدير لها، فعلى الرغم من أن الصفقة تعني نجاة الشركات من آلام فرض رسوم جمركية مكلفة على بضائعهم، فإن تصاريح الاستيراد والتصدير الجديدة وحدها ستكلف الشركات البريطانية 7.5 مليار إسترليني (10.3 مليار دولار) سنويًا، وفقًا لهيئة الإيرادات البريطانية

 

كما أن الاتفاقية التجارية، لم تناقش من الأساس إمكانية وصول البنوك البريطانية ومديري الأصول إلى الأسواق الأوروبية، رغم أن القطاع المالي الذي يمثل حوالي 7% من الاقتصاد البريطاني وأكثر من مليون وظيفة، في الوقت الذي وضع فيه عدد من البنوك الدولية الكبرى، بالفعل خططًا لتحويل بعض العمليات من لندن إلى دول أوروبية أخرى.

 

وبحسب بيانات شركة إرنست ويونج، قامت شركات الخدمات المالية الدولية بترحيل أصول بقيمة 1.2 تريليون إسترليني (1.6 تريليون دولار) ونقل 7500 وظيفة من بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي منذ استفتاء عام 2016، وكانت دبلن ولوكسمبورج وفرانكفورت وباريس أكبر المستفيدين.

 

هناك نقطة هامة أيضاً، فبينما اتفقت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على تطبيق قواعد معينة في الوقت الحالي، فليس من الضروري أن تتوافق الرؤى في المستقبل، وفي حالة حدوث ذلك، فمن السهل إثارة نزاع قد يؤدي في النهاية إلى تعريفات على واردات بعض السلع، لذا من المتوقع أن يكون خطر النزاعات ثابتًا جديدًا في العلاقات المستقبلية بين يريطانيا والكتلة

 

وفي ظل هذه التحديات، يتضح أنها مغامرة أقبلت عليها المملكة المتحدة من أجل الاستقلال والسيادة، وسط آمال على أن البريكست سيؤتي ثماره على المدى الطويل هو ما يراهن عليه رئيس الوزراء بورس جونسون عن طريق إجراء الحكومة سلسلة من المفاوضات حول صفقات تجارية، والاستفادة من أنها ستتمتع بسلطة أكبر على اللوائح والضرائب وهي خارج الاتحاد !!

 

وبالفعل، هذا ما توصلت المملكة المتحدة إلى اتفاقيات تجارية مع دول مثل اليابان وتركيا، كما تسعى جاهدة لإنهاء صفقة تجارية كبيرة مع الولايات المتحدة، على أمل أن تساهم هذه الصفقات في تقليل آلام الخروج من الاتحاد الأوروبي

 

في النهاية، بعد مرور أربع سنوات ونصف، طُويت صفحة البريكست مع نهاية العام الماضي، وسيبدأ الاقتصاد البريطاني في مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين وحده، وسيصبح أقل قدرة على الوصول أكبر وأقرب منطقة تجارية له، ولكنه أيضًا سيكون أقل تقييدًا بقواعد الاتحاد الأوروبي، فهل تتمكن المملكة المتحدة من مجابهة هذا التحدي أم تفقد قوتها وقدرتها الدولية؟