كان أفضل الأزمان، وكان أسوأ الأزمان، هذه الافتتاحية للرواية الشهيرة قصة مدينتين للكاتب تشارلز ديكنز , هي ذاتها ستكون لسان حال الأثرياء والفقراء حينما يتذكرون فترة جائحة فايروس كورونا بعد أن يمن الله علينا ويخرج من عالمنا غير مأسوف عليه

 

بالطبع أفضل الأزمان كان للأثرياء الذين تراكمت ثرواتهم وإزدادوا ثراءً خلال تفشي الوباء، لكن بالتأكيد لم يكن كذلك لأناس فقدوا وظائفهم وآخرون تزايدت عليهم صعوبات الحياة مالياً وصحياً بفعل فايروس كورونا فإزدادوا فقراً فوق فقرهم

 

يقول الإمام علي كرم الله وجهه ( لو كان الفقر رجلا لقتلته ) , مؤخرا صدر تقرير صادم يحذر فيه البنك الدولي من أن 2020 ستكون شاهداً على أول زيادة في معدل الفقر المدقع منذ عام 1998 وقت الأزمة المالية الآسيوية ، في حين ترصد تقارير أخرى ارتفاع ثروة أغنياء العالم إلى مستوى قياسي غير مسبوق يتجاوز 10 تريليونات دولار 

 

الوباء يطارد الفقراء

أجبرت المعاناة المالية الفقراء على أن يكونوا في الخطوط الأمامية في مواجهة بطش الوباء بحثاً عن لقمة العيش ، لكن لم يكن ذلك شافعاً لهم أمام خفض الأجور وفقدانهم الوظائف، في حين كان الأثرياء في حالة سبات في المكاتب المنزلية بل ويربحون الأموال

 

ومع إستمرار الوباء، يتوقع البنك الدولي أن تدفع الجائحة ما يزيد على 115 مليون شخص الى تعداد الفقر المدقع ، الذي يُعرَّف بأنه العيش على أقل من 1.90 دولار يومياً , ومن المرجح أن يؤثر الفقر المدقع والفقر على نسبة قد تصل إلى 9.4% من سكان العالم في 2020 ، وكانت التوقعات السابقة ترى تراجعه إلى 7.9% في العام الجاري لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن وضرب الوباء بهذه التقديرات عرض الحائط.

بالطبع تزايد إصابات كورونا يعني استمرار المعاناة الاقتصادية التي تنعكس على الفقراء بشكل أكبر وسط تقديرات بأن تتسع دائرة الفقر عالمياً لتصل إلى 547 مليون شخص بدخل اقل من 5.5 دولار باليوم الواحد وتاتي هذه الارقام الصادمة للفقر المدقع والفقر إعتمادًا على شدة الانكماش الاقتصادي العالمي وانتشار رقعة تفشي الوباء

 

تبرز ضخامة تداعيات جائحة كورونا بتأثيره حتى في أكبر اقتصاديات العالم لترتفع معدلات الفقر في الولايات الامريكية بنسبة غير مسبوقة , حيث وجد باحثون في جامعة كولومبيا أن اكثر من ثمانية ملايين أمريكي وقعوا في براثن الفقر منذ مايو الماضي، ليرتفع معدل الفقر إلى 16.7%، مقارنة مع 14.3% في مايو بالرغم من الحزم التحفيزية التي جأت في سياق لعبة الأغنياء الانتخابية

 

هذا ويقول رئيس مجموعة البنك الدولي ديفيد مالباس: قد يتسبب الوباء والركود العالمي في إنتكاسة خطيرة للتنمية والحد من الفقر، وستحتاج الدول إلى الإستعداد لإقتصاد مختلف بعد الوباء من خلال السماح لرأس المال والعمالة والمهارات والإبتكار بالإنتقال إلى أعمال وقطاعات جديدة

 

الأثرياء يزدادون ثراءً

وفي عالم آخر يكاد يكون منفصلاً عن هذا الواقع و مستفيداً منه حتى الثماله ، عزز فيروس كورونا إجمالي ثروة الأشخاص الأغنى عالمياً إلى أعلى مستوى على الإطلاق، حيث نمت إجمالي الثروات التي يمتلكها المليارديرات العالم إلى مستوى قياسي تجاوز 10.2 تريليون دولار

 

وخلال الفترة بين أبريل وحتى نهاية يوليو من هذا العام ، كشف تقرير صادر عن البنك السويسري يو بي إس وشركة بي دابلي سي بأن ثروات 2000 ملياردير يشكلون نحو 98% من إجمالي الثروة  نمت بأسرع وتيرة خلال العقد الماضي بنسبة 27%، مشيرةً إلى أن المليارديرات في قطاعات الصناعة والتكنولوجيا والرعاية الصحية نموًا يتراوح بين 36% و44%.

 

كما أدت حزم التحفيزات المالية الضخمة التي قدمتها الحكومات بالإضافة إلى التيسير الكمي من قبل البنوك المركزية إلى تعافي الأسواق المالية من صدمة الوباء بل عودتها لمستويات قياسية، وهو ما ساهم بشكل أساسي في قفز ثروات المليارديرات خاصة وأن أكثر من نصف الأسهم المملوكة تقع في حيازة 1% من أغنى اللأسر الأمريكية وفقاً لبحث أجراه بنك جولدمان ساكس.

 

الفجوة تتزايد

كانت الفجوة بين الأغنياء والفقراء سرداً شائعاً حتى قبل وقت طويل من الوباء، لكن تفشي كورونا وضع التفاوتات الإجتماعية والطبقية في صورة صارخة خصوصا مع إرتفاع  معدلات البطالة

 

حيث أدت جائحة كورونا إلى انخفاض هائل في دخل العمال في جميع أنحاء العالم بمقدار 3.5 تريليون دولار أو ما يعادل 10.7% في الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري، مقارنة بالعام الماضي , وجاء أكبر انخفاض في البلدان ذات الدخل الأقل من المتوسط، حيث تراجع الدخل من العمل بنسبة 15.1%، وكانت الأمريكتان المنطقة الأشد تضرراً من انخفاض الدخل، كما يوضح الشكل التالي.

وتعتبر المساعدات التي اتخذتها الحكومات خلال الأزمة الحالية أكبر الأسباب في توسيع فجوة عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء حيث تركزت حزم التحفيز المالي في البلدان الأكثر ثراءً، في حين أن الدول النامية هي الأكثر إحتياجا للتحفيز وتعاني من قدرة محدودة على تمويل مثل هذه الإجراءات , حيث تحتاج الى اكثر من تريليون دولار من التحفيزات لمجرد الحفاظ على فجوة ما قبل الوباء مع الدول الأكثر ثراء

 

في النهاية، يهدد كورونا بجعل ملايين بني البشر في تعداد ضحايا الفقر والفقر المدقع ، والمفارقة المؤلمة كانت عندما أعتقد البعض في بداية إنتشار الوباء أن هذه المعاناة ستحقق المساواة لأن الضرر سيقع صحيا على الأغنياء والفقراء معاً ، لكن مع إستمرار الفيروس أصبح واضحاً أنه قادر على فعل أي شيء بإستثناء تحقيق المساواة إقتصاديا , وبين معادلة الصحة أغلى من المال يقع ملاين البشر في سرداب الفقر الأسود مالهم من دون الله من معين