مؤخراً أصبحت مخاوف التضخم أكثر بروزاً بعد أن استدعت أزمة وباء كورونا استجابة استثنائية وغير مسبوقة لتظافر الجهود من كل الحكومات والبنوك المركزية العالمية، مما جعل توقعات عودة التضخم أكثر ترجيحاً بالنسبة للكثيرين

ومع ذلك، يشعر المستثمرون بالقلق من حدوث انكماش للأسعار، قد يبدو هذا غريبا بعض الشيء ، بالنظر إلى أن الخوف من الأمر المعاكس الذي جذب الانتباه ورفع أسعار أصول مثل الذهب

ونستعرض فيما يلي الاحتمالين الذي يخشى الاقتصاديون حدوثهما وهما التضخم الجامح وانكماش الأسعار.

 

رعب التضخم

المقصود هنا بالتضخم هو معدل ارتفاع الأسعار عن مستوى مستهدف يدور غالباً حول 2% في الاقتصاديات المتقدمة، وهو المعدل الذي يعتقد معظم صناع السياسة النقدية أنه مناسب لدعم النمو الاقتصادي، وطوال السنوات الماضية كان التضخم يمثل حلماً صعب المنال بالنسبة للبنوك المركزية رغم كل المحاولات

 

خلال 2020 قامت البنوك المركزية والحكومات بضخ مبالغ قياسية من الأموال في اقتصاداتها لمحاربة الركود العالمي الناجم عن جائحة فيروس كورونا، لتتضخم بذلك مثلاً الميزانية العمومية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي من 4 تريليونات دولار في منتصف مارس إلى ما يقرب من 7 تريليونات دولار، علاوة على ذلك أقر الكونجرس تريليونات الدولارات من التحفيزالاضافي القادمة في الطريق

 

لكن هذه التدابير القوية التي قامت بها البنوك المركزية هي بالحقيقة سلاح ذو حدين وأثارت تكهنات كثير من المحللين بأن التضخم أصبح خطراً قريباً، لكن هذه المرة كان الحديث لا يتعلق بالتضخم الحميد الذي يدعم النمو وإنما التضخم الجامح الذي يهدد القدرة الشرائية للمستهلكين ويدمر القيمة الحقيقية للنقود ويدهور الاقتصاد

 

فمن خلال طباعة المزيد من الأموال فإن كمية البضائع لا تتغير، ومع ذلك، سيكون لدى الأفراد المزيد من النقود لإنفاقها على هذه البضائع، ومع المزيد من الأموال التي تسعى للحصول على نفس الكمية من السلع، ستقوم الشركات بشكل طبيعي بزيادة الأسعار كنتيجة لارتفاع الطلب ، مما قد يؤدي بالنهاية إلى التضخم.

 

حتى الآن، أدى ضعف الطلب إلى انكماش الأسعار في الاقتصادات المتقدمة،  حيث انخفضت أسعار المستهلك الأمريكي لثلاثة أشهر متتالية قبل أن تنتعش في يونيو ويوليو الماضيين مع إشارات تعافي طلب المستهلكين مما يشير إلى احتمالية أن تؤدي مليارات الدولارات إلى التضخم الجامح بعد انتهاء الأزمة.

*أداء معدل التضخم في الولايات المتحدة خلال عام*

ورداً على بعض التساؤل بأن تدابير التحفيز خلال الأزمة المالية لعام 2008 لم تؤدي إلى إثارة التضخم رغم إبقاء معدلات الفائدة منخفضة، يرى المحللون في بنك مورجان ستانلي أن من الخطأ تجاهل خطر قفزة التضخم، مشيرين إلى أن هناك فرق واحد كبير بين الانكماش الاقتصادي الحالي المدفوع بفيروس كورونا وبين الأزمة المالية لعام 2008.

 

وأوضح المحللون أن هذا الاختلاف يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار المستهلكين بطريقة لا يتوقعها معظم المستثمرين، مشيرين: الكونجرس الآن هو المحرك عندما يتعلق الأمر بالمعروض النقدي ببرامجه المالية.. من المحتمل أن يكون هذا تضخماً أكثر مما هو متوقع مما يعني أن معدلات الفائدة يمكن أن ترتفع.

 

وهنا اعتقد من المفيد ان نشير الى نقطة غاية بالاهمية , ان جميع عمليات التحفيز الاقتصادي وضخ ترليونات الدولارات كانت بالنهاية في الاتجاه الإستهلاكي لتعويم الاقتصاديات والشركات لمواجهة اثار فايروس كورونا , ولم تكن بالاتجاه الإستثماري بالأعمال الذي يضمن إنتعاش الاقتصاد المستقبلي وتوسع قاعدة نموه سواء الصناعي او الخدمي او حتى التجاري  

 

ربما يترجم الذهب هذه المخاوف في صعود أسعار المعادن النفيسة  مؤخراً حيث سجل مستوى قياسياً جديداً أعلى 2000 دولار , وكذلك الفضة التي قفزت لأعلى مستوى لها منذ عام 2013 , وفي تبرير ذلك، قال بنك أوف أمريكا في تقرير حديث الفيدرالي يمكنه طباعة الدولار، لكن لا يمكنه طباعة الذهب، في إشارة إلى أثر زيادة المعروض النقدي على التضخم وبالتالي خفض القيمة الحقيقية للنقود

 

 كابوس الإنكماش

ورغم أن احتمال تسارع التضخم مرة أخرى بدأ في السيطرة على أذهان المستثمرين، فإن البعض الاخر يرى أن القلق سابق لأوانه لأن انكماش الأسعار لا يزال يمثل التهديد الأكبر , حيث لا توجد مؤشرات تذكر على حدوث طفرة كبيرة في أسعار المستهلكين، حتى بعد خمسة أشهر من التيسير غير المسبوق في السياسة المالية والنقدية لمكافحة الوباء.

وإذا كانت وجهة النظر السابقة بشأن قفزة التضخم تبدو منطقية وأكثر احتمالاً، فإن الاحتمال المعاكس من الانكماش لا يقل أهمية أيضاً، حيث يرى البعض أنه رغم ما فعلته الحكومات والبنوك المركزية لدعم الاقتصاد والشركات فإن كل الطرق تؤدي إلى انكماش الأسعار.

 

حيث تسببت أزمة كورونا في ارتفاع البطالة بشكل قوي وبقاء ملايين العمال عاطلين، وبالتالي سيكون الطلب الاستهلاكي ضعيفاً مع افتقاد الكثيرين للدخل اللازم للإنفاق، كما أن الدعم المقدم للشركات سيجعلها قادرة على التعافي سريعاً وإعادة الإنتاج لمستويات مرتفعة بوتيرة يفشل الطلب في ملاحقتها، لتكون النهاية ارتفاع العرض وبتالي هبوط الأسعار

 

وفضلاً عن تأثير الوباء، فهناك أربعة أسباب أساسية قد تؤدي إلى انكماش الأسعار:

أولاً: يعاني سكان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان من الشيخوخة وعند هذا السن يدخر الناس أكثر ويستهلكون أقل

ثانياً: ساعدت المنافسة العالمية المتزايدة على احتواء التكاليف وبتالي انكماش الاسعار

ثالثاً: أدت شفافية الأسعار (خاصةً نتيجة لشبكة الإنترنت) إلى منح المشترين مزيدًا من القوة التفاوضية تجاه عقد الصفقات

رابعاً: أدى إلغاء النقابات العمالية في الولايات المتحدة إلى خفض ضغوط الأجور

 

وما بين رعب التضخم وكابوس الانكماش تعلو بعض الأصوات والتي أميل إليها بتوقع حدوث مزيج اكثر حده بين هذا وذاك بما يعرف اقتصاديا بالركود التضخمي stagflation , وبكل هذا الضجيج ترقص الأسواق المالية على موسيقى الانتخابات الامريكية التي أصبح واضحاً ان كلا الحزبين المتنافسين يقوما بتوظيف الأحداث , لا من أجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي بل فقط لحصد المكاسب الانتخابية حتى لو كانت بالفبركات الاعلامية بعيدة عن ارض واقع الارقام الاقتصاي

 

قد تكون 2020 سنة كل المفارقات التي تجمعت فيها كل الأضاد الصارخة فهل بعد هذه المقدمات الأستثنائية يمكن ان تكون 2021 أفضل حالاً !!؟؟ في اعتقادي أن الاسواق المالية العالمية والشركات أمامها تحديات هائلة تهدد حتى بقائها , خصوصا انه بالرغم من كل ما يحدث لاتزال الاسهم والاسواق تصعد بالبخار , ولكن فقط إلا حين  

 

اياد عارف 

مستشار إقتصادي