تلقت أسعار النفط ضربة موجعة في الأسابيع الأخيرة جعلتها تمحو كل المكاسب التي حصدتها جراء الغزو الروسي لأوكرانيا، بفعل مخاوف الركود الاقتصادي المسيطرة على عقل المستثمرين في الوقت الحالي، وسط سياسة التشديد النقدي الصارمة التي يتخذها الفيدرالي الأميركي والبنوك المركزية الأخرى حول العالم بدافع كبح جماح التضخم.

 

حيث أودت مخاوف الركود هذه بأسعار النفط لأقل مستوياتها قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تراجع خام برنت أدنى 90 دولارًا للبرميل، في حين تهاوى خام نايمكس الأمريكي تحت 80 دولارًا، مسجلًا أقل مستوى منذ يناير المنصرم، بعد سلسلة من التراجعات استمرت لأربعة أسابيع متتالية.

وتزامن ذلك مع خسائر قوية في أسواق الأسهم العالمية وهبوط مؤشر داو جونز الأمريكي لأقل مستوى لهذا العام تحت 30 ألف نقطة، في المقابل تزايدت عوائد سندات الخزانة الحكومية وواصل الدولار صعوده القوي لأعلى مستوياتها في 20 عامًا، مما يزيد الضغط على أسعار النفط، وسنتناول في السطور التالية القصة الكاملة لهبوط الخام في الأسابيع الأخيرة وماذا عن آفاقه المستقبلية؟

 

مخاوف الركود الاقتصادي

تنبع مخاوف مستثمري النفط من الركود العالمي الذي ظهرت ملامحه في كل قطاعات الاقتصاد، من أنه سيؤدي بالتبعية إلى تراجع الطلب على الخام، وزاد القلق مؤخرًا بعد أن أعلن الاحتياطي الفيدرالي بشكل صريح أنه اختار أن يحارب التضخم بشتى الطرق حتى لو تسبب ذلك في بعض الألم للاقتصاد والأسر، بمعنى أنه لا يخشى الركود بقدر ما يهمه عدم استمرار تسارع التضخم، الذي بلغ أعلى مستوياتها منذ 40 عامًا عند 8.3% في أغسطس الماضي

 

بل اكثر من ذلك , فالسياسات الامريكية عبر الاشهر الاخيرة كلها كانت تحرض وتدعم تخفيض اسعار النفط بالدخول المباشر في السوق عبر بيع المخزونات الاستراتيجية , فلا يخفى على أحد الارتباط الكبير وتأثير إرتفاع أسعار النفط على ارتفاع التضخم  , فبرميل النفط يمثل عصب الحياة الاقتصادية في هذا الكوكب ويدخل في صناعة اغلب السلع والخدمات

ومن هذا المنطلق في محاربة التضخم بكل الوسائل ، رفع المركزي الأمريكي أسعار الفائدة 5 مرات متتالية منذ مارس الماضي، ليس هذا فحسب، بل إن آخر 3 عمليات زيادة للفائدة كانت بنحو 75 نقطة أساس، وهو أكبر وتيرة منذ حوالي 30 عامًا، وسبقها رفع الفائدة بنحو 0.25% و0.50% على التوالي.

 

وبعد الزيادة الأخيرة في الأسبوع الماضي، تراوحت معدلات الفائدة الأمريكية بين نطاق 3% و3.25%، مع توقعات من قبل أعضاء الفيدرالي أن تصل إلى 4.4% بحلول نهاية العام الجاري وصعودها إلى 4.6% في العام المقبل، وهو ما يفوق التقديرات السابقة.

 

وفضلًا عن مخاوف الركود، فإن زيادة أسعار الفائدة تعزز قوة الدولار الأمريكي، مما يجعل شراء النفط، المسعر بالعملة الأمريكية، أكثر تكلفة بالنسبة للمستثمرين الذي يمتلكون العملات الأخرى، إذ تجاوز مؤشر الدولار أمام 6 عملات رئيسية مستوى 113 نقطة، لأول مرة في أكثر من 20 عامًا.

وأدّى ذلك إلى تراجع اليورو لأقل مستوى مند عام 1999، وهبوط الإسترليني لأدنى مستوى في 37 عامًا، لتحضر هنا مقولة عمرها أكثر من 50 عامًا لوزير الخزانة الأمريكي جون كونالي لوزراء مالية الدول الأجنبية في عام 1971 الدولار عملتنا لكنه مشكلتكم.

 

ورغم مخاوف تباطؤ الطلب على النفط عالميا جراء ارتفاعات أسعار الفائدة، لا تزال مؤسسات الطاقة الكبرى مثل وكالة الطاقة الدولية ومنظمة أوبك تتخذ منهج الانتظار والترقب في توقعاتها بشأن استهلاك النفط العالمي في العام المقبل، وإن كان من الممكن أن تتغير في الأشهر المقبلة، مع عمليات رفع الفائدة الأخيرة وتزايد مخاوف الركود.

 

في أحدث توقعاتها الشهرية، ترى أوبك نمو الطلب العالمي على النفط بنحو 2.70 مليون برميل يوميًا خلال العام المقبل، ليصل وهى نفس التقديرات التي طرحتها المنظمة في أولى توقعاتها للطلب لعام 2023 خلال يوليو الماضي، مقارنة مع 3.10 مليون برميل يوميًا متوقعة للعام الجاري.

فيما تتوقع وكالة الطاقة الدولية نمو الاستهلاك العالمي للنفط بمقدار 2.10 مليون برميل يوميًا، ليصل الإجمالي إلى 101.8 مليون برميل يوميًا، لكنها في الوقت نفسه خفض تقديراتها للعام الحالي بمقدار 110 آلاف برميل يوميًا، ليكون من المتوقع نمو الطلب بنحو مليوني برميل يوميًا.

 

ماذا عن إمدادات النفط؟

ربما تكون مخاوف نقص المعروض هي الداعم الوحيد لاحتمالية عودة أسعار النفط للارتفاع مرة أخرى، خاصة بعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التعبئة العامة العسكرية جزئيًا خلال الأسبوع الماضي، مما يفاقم التوترات السياسية في شرق أوروبا.

 

وحتى الآن ما زالت صادرات النفط الروسية صامدة بشكل كبير أمام سيل العقوبات العربية، مع اتجاه الخام الروسي إلى أسواق أخرى مثل الصين والهند، لكن المرونة الحقيقية ستظهر إذا تمكنت موسكو من بيع نفطها بعد دخول الحظر الأوروبي حيز التنفيذ نهاية العام الجاري.

 

وتُقدر وكالة الطاقة الدولية أن إنتاج النفط الروسي سيتراجع 1.9 مليون برميل يوميًا بحلول فبراير المقبل، بالتزامن مع دخول حظر الاتحاد الأوروبي لصادرات موسكو من الخام والمنتجات النفطية حيز التنفيذ، مقارنة مع 11 مليون برميل يوميًا في أغسطس المنصرم.

 

أما إنتاج النفط الأمريكي، الذي كان يعوّل عليه الكثيرون لتعزيز الإمدادات العالمية وخفض أسعار الوقود المحلية، التي تؤرق المستهلكين، فإنه أبدى استجابة حذرة بشكل كبير لأزمة نقص المعروض، ولم يرتفع بالشكل المتوقع حتى الآن، حيث ركزت الشركات على تقوية ميزانياتها العمومية وتحقيق الانضباط الرأسمالي، بدلًا من زيادة أنشطة الحفر.

والآن تتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن يصل إنتاج الولايات المتحدة من النفط إلى 11.8 مليون برميل يوميًا بنهاية 2022، في حين كان تقدر في بداية العام أنه سيتجاوز 12 مليون برميل يوميًا، مقارنة مع حوالي 11.3 مليونًا في العام الماضي.

 

فيما يتعلق بإنتاج منظمة أوبك، المتحكم الفعلي في أسواق النفط العالمية، فإنه يواصل الارتفاع في الأشهر الماضية، حيث بلغ 29.651 مليون برميل يوميًا بنهاية أغسطس الماضي، مقابل متوسط عام 2021 البالغ 26.347 مليونًا، بدعم زيادة إنتاج السعودية من النفط الذي عوض اضطرابات الإمدادات في نيجيريا وليبيا وغيرها، كما يوضح الجدول التالي، الذي يشمل أحدث تقديرات منظمة أوبك.

لكن في الواقع، لا تزال زيادة إمدادات أوبك النفطية غير كافية بالقدر الذي يعوض مخاوف نقص النفط الروسي، حيث تشير التقديرات إلى أن إنتاج تحالف أوبك+ يقل 3.6 مليون برميل يوميًا عن المستهدف، خاصة مع السياسة الحذرة بعض الشيء الذي يتخذها تحالف أوبك+ مؤخرًا، فبعد أن عوض التحالف، بنهاية أغسطس، التخفيضات القياسية التي أقرها خلال الوباء، فإنه قرر زيادة الإنتاج 100 ألف برميل يوميًا في سبتمبر، ثم عاد وأقر خفضًا للإمدادات بالكمية نفسها خلال أكتوبر المقبل.

 

*أداء أسعار النفط منذ بداية 2022

وكانت الخسائر القوية بفعل قرار الاحتياطي الفيدرالي في الأسبوع الماضي، ما دفع أسعار النفط لتسجل رابع خسائرها الأسبوعية، وتقلص مكاسبها منذ بداية العام إلى 5% فقط للخام الأمريكي و15% لخام برنت القياسي، بعدما بلغت 50% لكل منها في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.

 

وترى إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن سعر خام برنت قد يصل إلى 98 دولارًا للبرميل في الربع الرابع من 2022، قبل أن يسجل 97 دولارًا في متوسط عام 2023، لكنها أشارت إلى أن تقديرات تخضع لحالة كبيرة من عدم اليقين بشأن الركود الاقتصادي وصمود صادرات النفط الروسية أمام العقوبات الغربية.

 

ورغم أن الركود الاقتصادي قد يقود أسعار النفط إلى هبوط قوي حال حدوثه في العام المقبل، يرى البعض أن التحول من الغاز إلى النفط هذا الشتاء، في ظل نقص الإمدادات الروسية، قد يدعم الطلب على النفط حتى في بيئة الركود، غير أن توقعات هبوط إمدادات الخام الروسي مع الحظر الأوروبي واحتمالية فرض سقف لأسعار النفط الروسي، تبقي داعم رئيسي لعودة أسعار النفط فوق مستويات 100 دولار للبرميل.

 

تحركات أسعار النفط والتوقعات الفنية للمسار القادم

وفي ضوء كل ما سبق من التحليل الاساسي لحركة اسعار فإن التحليل الفني يخبرنا بأكثر من ذلك , حيث اتخذت أسعار النفط مسارًا هبوطيًا منذ أن تجاوز 120 دولارًا للبرميل أوائل يونيو الماضي لتصل اليوم الى مستوى 78 دولار , نلاحظ فنيا خروج عن القناة الصاعدة العامة من قاع ابريل 2020 عندما تحطمت الاسعار الى قرب 10 دولار على ضوء الخلافات السعودية الروسية ومخاوف جائحة كورونا ذاك الوقت , مع تشكل قمة فنية واضحة المعالم في مارس 2022 لينهي صعود بموجة دافعة خماسية التركيب من قاع ابريل 2020 , ويبدأ الان مرحلة التصحيح والتي نعتقد انها سوف تستمر لتصل أسعار برميل النفط الأمريكي WTI الى نطاق الشراء المستهدف بين 65 - 55 دولار للبرميل خلال الاشهر القليلة القادمة

في النهاية ، تقع الاسعار بين مطرقة شبح الركود وسندان مخاوف نقص الإمدادات , وبين هذا وذاك يبقى الأقتصاد الامريكي والعالمي من أكبر الرابحين من بقاء الاسعار تحت حاجز 85 دولار في حربهم العالمية على التضخم , واذا نجحت فعلا السياسات الأمريكة في دفع اسعار النفط للانخفاض وايصالها الى النطاق المستهدف السابق ذكره كما يخبرنا التشارت , يمكن فعلا  أن تساعد الاسعار المنخفضة لأسعار النفط على كبح جماح مخاوف الركود

 

بالتالي فإن أهم إستنتاج يمكن الوصول له , أن الإنخفاض الحالي لاسعار النفط سيكون عامل أساسي لتهدئة سياسات الفيدرالي في رفع الفائدة على الاقل خلال السنة الحالية 2022 , وبتالي تهدئة قلق ومخاوف المستثمرين وإضعاف الزخم الهبوطي الحالي للاسواق وإعطاء الفرصة لمزيد من العقلانية , وهذه النتيجة يا سادة في رأيي قد تضعنا مباشرة أمام توقع رالي تعافي جميل يمتد حتى بداية 2023 في أسواق الأسهم العالمية وخصوصا في العملات الرقمية لتصبح الرابح الأكبر

 

أطيب أمنياتي للجميع بالتوفيق

اياد عارف

مؤسس موقع نمازون الاقتصادي